يستجدي اللبنانيون حقّهم بالطبابة، فينالونه بالتقسيط، في بلد لم يشهد نظامه الصحي يوماً مشروعاً شاملاً يفيد منه مواطنوه جميعاً، إلا وتمّت عرقلته أو تجزئته، وتبدو التجزئة السمة الأبرز لمشروع قانون "إفادة المضمونين المتقاعدين من تقديمات الضمان الإجتماعي"، الذي من المرتقب أن يرى النور قبل نهاية العام الحالي 2015.
ضمان المتقاعدين وبعد أن نال حيزاً كبيراً من النقاشات الإقتصادية والسياسية، وعلى الرغم من دراسته المسهبة في اللجان النيابية، تم إقراره في لجنة الصحة قبل أن يُحال الى لجنة الإدارة والعدل التي وضعت بعض التعديلات عليه، كما اطلعت عليه لجنة المال وأقرته وسلك طريقه الى اللجان المشتركة والهيئة العامة لمجلس النواب. ولكن كل ذلك لم يلغِ الثغرات التي شابت المشروع، وبعض الإعتراضات والملاحظات التي دوّنتها إدارة الضمان الإجتماعي وهي المعني الأول بتطبيق القانون.
ويتوجّه مشروع "المضمونين المتقاعدين" الى فئة محدّدة من المواطنين، كما مشروع الضمان الإختياري الذي كان من المفترض أن يشمل فئة من المواطنين قبل أن يقع في عجز ما زال يتخبّط به حتى اليوم، وبين هذا وذاك يستمر الحديث عن البطاقة الصحية التي لم تر النور منذ سنوات. هذه التجزئة في التقديمات الصحية والتشعّب في المشاريع والفروع الضامنة لا تلغي وجود شريحة كبيرة من اللبنانيين مكشوفة صحياً ولا تتمتع بأي تغطية، وهو ما استدعى اعتراضاً على مشروع المضمونين المتقاعدين من قبل أحد النواب في لجنة الصحة النيابية، مطالباً بضم اللبنانيين كافة الى الضمان الصحي بدل الإنتقائية في التغطية.
ومن الغرابة أن يتوجّه المشروع الى فئة من المتقاعدين لا المتقاعدين جميعاً، فهو يشمل في نصّه "المضمونين الذين يتقاعدون بعد نفاذ هذا القانون"، حارماً الآلاف من المواطنين المتقاعدين من تغطية صحية، بحجة أن المشروع مبني على فلسفة التمويل المُسبق، أي سيكون مُسبق التغطية وستتم تغطية نفقاته عبر رفع اشتراكات الضمان منذ تاريخ صدور القانون بنسبة 3% لتصبح 12% بدلاً من 9%، وبهذا الفارق تتم تغطية نفقات المضمونين المتقاعدين الذين تتجاوز مدة اشتراكهم بالضمان 20 سنة، لكن هذه التغطية لا تكتمل إلا بدفع المضمون المتقاعد 9% شهرياً من أصل الحد الأدنى للأجور (أي نحو 60 ألف ليرة).
إذا نظرنا الى الأمر انطلاقاً من عملية حسابية نلمس بعضاً من المنطق، لكن إذا قاربناه من منظور إنساني نراه مجرّدا من أي منطق، لاسيما منطق الدولة والموسسات الضامنة، فما ذنب المتقاعد في عجز الدولة والضمان عن تغطية نفقات طبابته، ومن يضمن للمتقاعد المضمون أن تستمر تغطيته صحياً ولا تذهب اشتراكاته هباءً كما حصل مع تجربة الضمان الإختياري؟
من المغالاة أن نتوقع اليوم مدى استمرار مشروع تغطية المضمونين المتقاعدين، ولكن يمكن الإستنتاج أن تغطية المتقاعدين لن تدوم في ظل غياب سياسة صحية طويلة الأمد، وهذا ما ألمح إليه المدير العام لصندوق الضمان الإجتماعي الدكتور محمد كركي في حديثه لـ "المدن" عندما قال إن "المشروع مؤمن التغطية من خلال رفع الإشتراكات ومساهمة الدولة ورسم المتقاعد لفترة لا تتجاوز 25 عاماً إذ أن المشتركين في هذه الفترة لن يتجاوز عددهم 3000 متقاعد، ولكن بعد 40 أو 50 عاماً عندما يصل عدد المتقاعدين الى 70000 متقاعد يصبح من الضرورة إيجاد بدائل تغطية". وهنا يصبح من الطبيعي أن يتحول المشروع تدريجياً الى مشروع عاجز مالياً.
ولم يخفِ كركي تحفّظه واعتراضه على أحد الأسباب الموجبة التي تضّمنها المشروع وتم إقراره على أساسها، وهي اعتبار ان طريقة التمويل يمكن أن تؤمن وفراً في العقدين الأولين من بدء تنفيذه، ويمكن استخدام فائض الإشتراكات في السنوات الخمس الأولى لتغطية العجز المتراكم في صندوق ضمان المرض والأمومة.
وهنا يطرح السؤال: الى متى ستبقى مؤسسات الدولة تنتهج سياسة إيفاء عجزها على حساب المواطن ومن جيبه؟ ولماذا لا تُستخدم فوائض الإشتراكات في التغطية الصحية للمتقاعدين السابقين الذين تم استثناؤهم من المشروع الحالي؟