عيّن مجلس الوزراء في جلسته بتاريخ 8 نيسان 2015 رئيس وأعضاء مجلس إدارة «الهيئة الاقتصادية الخاصة في طرابلس» وهم: الوزيرة السابقة ريا الحسن رئيسة ومديرة عامة، والوزير السابق جهاد أزعور ووسيم منصوري وأنطوان حبيب ورمزي الحافظ وأنطوان دياب وعشير الداية أعضاء. ولا بد من تحية الحس الوطني لدى الوزيرة الحسن لأنها قبلت العمل بالسخرة، وفق تعبير وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس في مقابلة تلفزيونية، لقاء بدل أتعاب رمزي لا يفوق ثمانية ملايين ليرة شهرياً، لتنمية مدينة طرابلس العزيزة.
كما وافقت حكومة «المصلحة الوطنية» في 23 نيسان على اقتراح القانون المقدم من النواب أنطوان زهرا ونعمة الله أبي نصر وسامر سعادة وحكمت ديب واسطفان الدويهي لإنشاء «منطقة اقتصادية خاصة في قضاء البترون»، وقررت إحالته على مجلس النواب.
النعمة المفترضة حلت إذاً على طرابلس وهي آتية إلى البترون، والعقبى لسائر مراكز المحافظات والأقضية ومواقع الزعامات، لأن هذا الترياق لا يجوز حجبه عن أحد، عملاً بالمبدأين الدستوريين القائلين بالمساواة بين اللبنانيين وبالإنماء المتوازن.
من منطلق إنساني، تقتضي الرأفة بالجهود المضنية التي يبذلها مجلس نواب الأمة في الرقابة والتشريع دعوته إلى إقرار قانون واحد لمجمل «المناطق الاقتصادية الخاصة» المنتظرة يشمل كل الأراضي اللبنانية عوضاً عن اضطراره لمناقشة سلسلة طويلة من القوانين المتطابقة والمستنسخة لكل منطقة على حدة.
ما هي العناصر التي تدخل في تركيب هذا الدواء السحري وتجعله الحل الشافي للتخلف والحرمان؟
تلحظ «المناطق الاقتصادية الخاصة» مجموعة من الإجراءات تندرج تحت العناوين التالية:
الهيئة العامة لإدارة المنطقة الخاصة
الهيئة مسماة عامة (وليست خاصة كالمنطقة، ربما من باب التندر) على الرغم من كونها متفلتة من أحكام النظام العام للمؤسسات العامة ومن الرقابة عليها.
فهي، وفق المادة 2 من القانون، «لا تخضع لأحكام المرسوم الذي يحدد النظام العام للمؤسسات العامة،» وهي، وفق المادة 4، «تخضع للأحكام الواردة في هذا القانون وللأنظمة الخاصة بها دون سواها، ولرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة وفقاً لنظام خاص» (لاحظوا درجة خصوصية هذه الهيئة العامة)، وهي، استكمالاً للسياق، «لا تخضع لرقابة كل من مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي». فاطمئنوا. ولا تنتفضوا إذا قرأتم في المادة 6 أن أول «واردات الهيئة هو الاعتمادات الملحوظة لها في الموازنة العامة»، «فيسواها ما يسوى» المال العام غير الخاضع للرقابة منذ عقدين ونصف العقد أصلاً.
والهيئة، وفق المادة 8، ومثل المحكمة الدولية «الخاصة» بلبنان، تتولى «وضع شروط الترخيص للمشاريع الاستثمارية» وفي الوقت ذاته تتولى «الموافقة على الترخيص بهذه المشاريع الاستثمارية». وهي «تتلقى طلبات الترخيص بالعمل للأجانب في المنطقة وإصدار تلك التراخيص بقرار منها (الهيئة) وفقاً لنظام منح التراخيص الخاصة (أيضاً) بالمنطقة، وإطلاع وزارة العمل عليه»، لعله نظراً إلى الهم الإحصائي المستشري. وكي لا يتبقى أي قيد أو يحصل أي سهو، لم ينس واضعو القانون إضافة إلى أنها «تتولى أيضاً أي مهام أخرى يتطلبها حسن سير العمل في المنطقة».
دفعاً لأي التباس، تكرّس المادة 9 منطق الدويلة إذ تقول: «تمارس الهيئة حصراً، في ما يخص المشاريع الاستثمارية التي تخضع لأحكام هذا القانون (أو الأنظمة التطبيقية لأحكامه)، صلاحية جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات في ما يتعلق بمنح التراخيص الادارية وإجازات البناء». الدولة والبلديات مكفوفة اليد إذن ومنزوعة الصلاحيات كلياً، لأن جل أعمالها إدارية أصلاً، والصلاحيات التي تحوزها الهيئة حصرية.
هيئة بعد هيئة، تكتمل فسيفساء الدويلات، فترتاح الدولة والبلديات، وتتفرغ لهواياتها السياسية والإعلامية.
المشغل... الهيئة الخاصة لإدارة المنطقة الخاصة
لكن الهيئة تستطيع هي أيضاً التفرغ لهواياتها. قد يتخيل البعض أن ملاكها الذي يضم ثمانين شخصاً، اقتصاديين وإداريين وفنيين وحقوقيين (والمحدد في المرسوم 2226 تاريخ 11/6/2009)، صمم لكي ينهض هذا الفريق من الاختصاصيين المتحمسين للعمل بالسخرة لتنمية طرابلس اليوم، والبترون غداً، بأعباء إدارة المنطقة، طبقاً لما ورد في المادة 1 من القانون، حيث عُرّفت الهيئة بأنها تتولى «إدارة هذه المنطقة». لكن الواقع غير ذلك. فالقانون لحظ، إلى جانب الهيئة، جسماً غريباً يشغل البال، اسمه «المشغل». وهذا المشغل، وفق المادة 1 نفسها، «يتولى مسؤولية تشغيل واستثمار المنطقة كلياً أو جزئياً ضمن نطاق العقد المنظم لهذه الغاية مع الهيئة، كما يمكن أن يتولى مسؤولية إنجاز مشروع إنشاء المنطقة وتأهيلها وتجهيز بنيتها وغيرها من الأمور اللازمة»... وذلك حتى «إنتهاء فترة الإشغال». (إنتهاء بهمزة قطع، وفقا للنص التشريعي الجليل، ولكن الرئيس سهيل بوجي لم يعد هنا لتصحيح الأخطاء المادية واللغوية الوفيرة في النص).
ويمكن، بحسب المادة 14، «الترخيص للمشغل... بحق تأجير المستفيدين جزءاً من المساحات الداخلة في المنطقة المخصصة للأشغال، كما يمكن أيضاً تأجير المخازن والمستودعات وغيرها واستيفاء بدلات الإيجار من جانب المشغل» كما «يجوز للهيئة أن تمنحه حق إستيفاء بدل من المستفيدين عن تأدية بعض الخدمات».
ماذا يتبقى من «الإدارة» إذا تولى المشغل التشغيل والاستثمار والإنجاز والتأهيل والتجهيز وغيرها من الأمور اللازمة وتأجير الأراضي والأبنية وقبض بدلات الخدمات؟
زيادة في الوضوح، تنص المادة 12 على «جواز منح المشغلين مهام توفير بعض الخدمات في المنطقة عن طريق توليهم مسؤولية إقامة مشاريع إنتاجية مثل الكهرباء وخدمات الإتصالات والماء وغيرها وتشغيلها بصورة مستقلة في المنطقة بأسعار منافسة وفقاً للترتيبات الناشئة عن العقد»، أي بخرق حصرية المؤسسات العامة الخدمية كافة، انسجاماً مع منطق سيادة الدويلة، واستيحاء من تجربة سوليدير «الخاصة» لناحية فرض أسعار الخدمات على المؤسسات المقامة فيها.
الهيئة مصممة إذن للقيام بعمل واحد فتستريح: إبرام العقد مع المشغل (أو المشغلين). فما هي شروط إبرام هذا العقد؟ ولماذا لا تقوم الهيئة بالإدارة بنفسها؟ وإلا لماذا لم يؤسس القانون «المشغل» بدل تأسيسه «هيئة» لا تطالب إلا باستيلاد المشغل كما الشرنقة تستولد الفراشة الزاهية؟ ولماذا التضحية بتضحية الوزيرة ريا الحسن وإلهائها برئاسة الهيئة بدل تكليفها بإدارة «المشغل»؟
هنا تبرز أهمية الطابع الخاص للهيئة العامة وأهمية عدم خضوعها لنظام المؤسسات العامة وللرقابة، فهذه الامتيازات هي الخيط الرفيع الذي يسمح بجعل المنطقة الخاصة خاصة فعلياً وبالكامل.
تضحيات المستثمرين
نصل إلى الأنشطة المأمولة في المنطقة. تنص المادة 17 على أن «المشاريع الاستثمارية في المنطقة تتعاطى أعمال التجارة والصناعة والخدمات والتخزين وغيرها من النشاطات والمشاريع الإستثمارية»، أي كل شيء، «ما عدا الخدمات السياحية»، من دون أن نفهم ما القصد من هذا الاستثناء. هل مطعم سندويشات يوفر «خدمة سياحية؟»، وهل مجمع أو هنكار لإيواء العمال البنغاليين أو النيباليين يوفر «خدمة سياحية». على الأرجح لا، فالعمال ليسوا سياحاً في القاموس اللبناني، والدليل أنهم لا يجوز أن يدخلوا إلى المسابح كما صرح مدير مسبح الريفييرا الراقي، لولا قرار وزير السياحة فادي عبود الذي قضى بالسماح «لكل إنسان ولكل عامل» بدخول المسابح «السياحية» إذا دفع المبلغ المحدد للدخول، والتمييز بين الإنسان والعامل واضح وصريح، وقد تعمد الوزير ذكر الصنفين جنباً إلى جنب تأكيداً على التمييز وبسبب تنافس الدوافع الإنسانية والعمالية الجامحة لديه.
المستثمرون معفيون من كل رسم أو ضريبة قد تخطر على البال، وإليكم لائحة الطعام بأطباقها الشهية: الرسوم الجمركية بما فيها معدل الحد الأدنى، ورسم الاستهلاك الداخلي، والضريبة على القيمة المضافة، ورسوم الاستيراد والتصدير عن الآليات والأجهزة والمعدات والمواد والسلع (المادة 32)، وضريبة الدخل على الأرباح (المادة 33)، ورسوم الترخيص وضريبتا الأملاك المبنية والأراضي عن الأبنية والإنشاءات العقارية (المادة 35)، وأي رسوم وضرائب على إصدارات الأسهم والأوراق المالية (المادة 37). هل من مزيد؟ وهل نسوا شيئاً؟ لا سمح الله وجل من لا يخطئ.
صحيح أن الرسوم الجمركية ورسم الاستهلاك الداخلي والضريبة على القيمة المضافة تستوفى في حال إخراج السلع من المنطقة لإدخالها إلى الأسواق اللبنانية (المادة 32)، إنما تبقى المعدات والأدوات المستخدمة لإنتاجها معفاة، وتبقى سائر الإعفاءات قائمة. هذا الإجراء الجمركي كان لا بد منه تلافياً لاهتزاز السلم الأهلي، وإلا لكانت كل المؤسسات القائمة في البلد انتقلت إلى المنطقة أو سارت إلى الإفلاس أو التهريب. لكن ما رأيكم بالمؤسسات التي لا تبيع سلعاً بل خدمات؟ من مكاتب محاماة واستشارات وإعلان وإعلام وغيرها؟ ولماذا يتبقى ولو واحدة منها خارج «المنطقة»؟ وماذا عن المؤسسات التي تصدر سلعاً والتي لا تستفيد من الإعفاءات وتدفع الضرائب على الاستهلاك على معداتها وعلى مدخلاتها السلعية ولا تسترد هذه الأخيرة إلا بعد وقت طويل وعناء كبير؟
في الخلاصة الدولة قررت ألا تحصّل شيئاً من «المؤسسات العاملة» في المنطقة لا هي ولا البلديات. إنما مقابل ماذا؟
وفق القانون الشافي، أتى التنازل عن الأموال العامة المتأتي من إعفاء المؤسسات في «المنطقة»، ولعله وجب وصفها بالمؤسسات المنطقية، غير مشروط. غير أن ثمة استثناء على هذا الكرم الحاتمي، وهو أن الإعفاء من ضريبة الدخل على الأرباح بالتحديد مقيد بشرطين قاسيين جداً لا بل تعجيزيين (المادة 33): «أن لا تقل قيمة الأصول الثابتة في المؤسسة أو رأسمالها عما يوازي ثلاثماية ألف دولار أميركي بالعملة اللبنانية»، و«أن لا تقل نسبة اللبنانيين من مجمل المستخدمين والعمال في هذه المؤسسات عن 50% منهم».
لا بد، ولو اعتراضياً، من تحية الحس الوطني الذي تبدى عبر إصرار المشترع على احترام السيادة المتجسدة في «العملة اللبنانية» قاعدة لمقياس قيم الأصول الثابتة أو رأس المال، وهي تبلغ مستوى فلكياً. ولا بد من تحية التحيّز الوطني والاجتماعي الذي تبدى عبر حفظ 50% من عديد العاملين للبنانيين، مقابل 50% لسائر سكان الكرة الأرضية. غير أن سائر الإعفاءات تبقى سارية حتى لو خرق هذا الشرط، ولن يكون من السهل معرفة مدى تقيد المؤسسات بالشرط المذكور نظراً لإزالة أي دور رقابي في هذا المجال، حتى للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يتوفر لديه وحده جهاز تفتيش فعلي وإن غير كاف.
عفواً، نسينا شرطاً تعجيزياً ثالثاً للاستفادة من الإعفاء من ضريبة الدخل على الأرباح، وهو تحقيق أرباح. فالمؤسسة التي لا تحقق أرباحاً (وما أكثرها في لبنان، بالنظر إلى شطارة اللبنانيين والمحاسبين خصوصاً وبفضل السرية المصرفية) لن تستفيد من هذا الإعفاء بسبب انتفاء الأرباح، وهي أصلاً لن تكون بحاجة إليه، لكنها سوف تستطيع في المقابل توظيف حتى 100% من الأجانب في اندفاعة أممية لا بد من تحيتها في مناسبة عيد العمال العالمي.
تبقى الإشارة، للإنصاف والأمانة، إلى أن المادة 36 «تعفي الشركات المغفلة على أنواعها من شرط وجود أشخاص لبنانيين في مجالس إدارتها» (خلافاً لقانون التجارة)، وأن المادة 37 تسمح «بأن تكون جميع أسهم المؤسسات العاملة في المنطقة أسهماً لحامله» (وهو ما يجيزه قانون التجارة أصلاً). فما القصد يا ترى من هذين الإعفاءين؟ أليس إعلان القرار الحازم بالتطنيش الكامل على هوية مالكي الشركات ومديريها؟ احتراماً للحرية الفردية أو لأي قصد سام آخر يا ترى؟
يبقى سؤال مقلق: لماذا منع السياحة في المنطقة؟ هل لتشجيعها من حولها؟ هل لتحفيز العجلة الاقتصادية في الأقاليم وإغداق منافع مطاعم السندويش عليها وزيادة الطلب على العقارات التي يشكو اللبنانيون من انخفاض أسعارها؟ والله أعلم.
العاملون في المؤسسات العاملة
إذا كانت رئيسة الهيئة تخسر لأنها تعمل بالسخرة، وكانت الدولة والبلديات لا تكسب شيئاً من «المنطقة» لا بل تخسر ما كانت تحصله من المؤسسات التي سوف تنتقل من خارج المنطقة إلى داخلها، فمن المستفيد من القانون الشافي غير «المستثمرين» وبعض تجار السندويش والأراضي من حولها؟ هل تعود الفائدة إلى العاملين فيها؟ وقد أكد علماء الغيب أن «منطقة البترون» مثلاً سوف توفر خمسة آلاف فرصة عمل.
الجواب لا، بكل وضوح. فالمادة 28 صريحة: «خلافاً لأي نص آخر، تخضع علاقات العمل بين الأجراء والمؤسسات العاملة في المنطقة والمتعلقة بشروط الأجر والصرف من العمل للاتفاقات التعاقدية الناشئة بين الفرقاء». هكذا! طار قانون العمل، وطارت شرعة الحقوق المدنية لمنظمة الأمم المتحدة، وطارت كل مواثيق منظمة العمل الدولية، وطار كل نص آخر (من باب الحيطة والحذر من أي سهو أو خطأ مادي، في غياب الرئيس سهيل بوجي لتصحيحه)، وطارت ثمرات قرن ونصف القرن من النضالات العمالية. لا قيود على الدوام ولا على العطل ولا على الصرف إلخ... عاش العمال وعيدهم.
رفعاً للالتباس، تذكّر المادة 31 بأن «المستخدمين والأجراء العاملين في المؤسسات الاستثمارية المنشأة في المنطقة يستثنون من أحكام الضمان الاجتماعي»، وبأن «أصحاب العمل الذين يستخدمون هؤلاء الأجراء في المنطقة يعفون من موجب التصريح والتسجيل ودفع الاشتراكات المتوجبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي».
المادة 28 كانت كافية لحرمان المستخدمين والأجراء من «الضمان الاجتماعي»، فلماذا المادة 31؟ قد يكون الجواب كامناً في المادة 29، ونصها: «تقدم للهيئة طلبات الترخيص بالعمل أو طلبات تجديد العمل العائدة لأصحاب عمل أو لأجراء دخلوا إلى لبنان لتعاطي عمل في المنطقة». إذا قرأنا هذه المادة وتوقفنا عند حصر تقديم طلبات الترخيص بالعمل أو طلبات تجديد العمل بالهيئة (وليس بوزارة العمل) وعطفناها على إعفاء أصحاب العمل من موجب التصريح عن العاملين في المؤسسات للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتسجيلهم لديه (وليس فقط من موجب دفع الإشتراكات المتوجبة له عنهم)، يكون القانون الشافي قد محا أي أثر للعاملين، الأجانب واللبنانيين، لدى وزارة العمل ولدى الضمان. فكيف يمكن التحقق من نسبة الخمسين في المئة (50%) المغدقة على اللبنانيين مقابل ضريبة الأرباح الافتراضية يا ترى؟ يبدو الغرض بالتالي حماية حرية أصحاب العمل في حرمان العاملين، الأجانب واللبنانيين، من الحقوق الهزيلة التي منحتهم إياها القوانين والشرع والمعاهدات.
هنا أيضاً، تبقى الإشارة، للإنصاف والأمانة، إلى أن المادة 34 تنص على شرط قاس لإفادة أصحاب العمل من إعفائهم من متوجبات الضمان الاجتماعي، وهو التالي: «يتوجب على أصحاب العمل المعنيين بالإستفادة من الإعفاءات المبينة أعلاه تأمين تقديمات صحية لأجرائهم ومن هم على عاتقهم، مماثلة أو تفوق تلك التي يوفرها الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي للمنتسبين إليه». لكن هذا الشرط القاسي يجب ألا يخيف المستثمرين الأفاضل، فتأمين التقديمات الصحية لا يشتمل على تعويضات نهاية الخدمة وعلى حوادث العمل، وعلى الأرجح أيضاً على «تقديمات الأمومة»، فالأمومة لا يجوز، احتراماً لحقوق المرأة، اعتبارها مشكلة صحية. وزيادة في الطمأنينة، يتوجب التذكير بأن الأجانب يسدد عنهم أصحاب العمل اشتراكات للضمان من دون أن يستفيدوا من أية تقديمات ولذا تفرض وزارة العمل تغطيتهم على حساب أصحاب العمل ببوليصة تأمين (تغطيتها واهية أصلاً)، وسوف يعفى أصحاب العمل من دفع المتوجبات عنهم للضمان إنما يعفون أيضاً من «تأمين تقديمات صحية مماثلة لتقديمات الضمان» لأن الضمان لا يوفر لهم أية تقديمات أصلاً. وهذا يشجع أصحاب العمل إلى مكافحة البطالة على سطح الكرة الأرضية بتشغيل أكبر عدد ممكن من الأجانب.
الحبكة متقنة. أخيراً، وفي حرص حريص على احترام الفقرة ج من مقدمة الدستور، التي تنص على أن «لبنان جمهورية... تقوم... على العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل»، تنص المادة 34 من القانون الشافي على أن «الرواتب وملحقاتها للمستخدمين والأجراء العاملين في المؤسسات المنشأة في المنطقة تعفى من ضريبة الدخل». ولا أحد يشك أن مدراء هذه المؤسسات سوف يتقاضون الحد الأدنى للأجور كما فرضه محمد شقير وغسان غصن ورفاقهما، بنضالهم المشترك، على مجلس الوزراء، وهم لن يستفيدوا بالتالي من الإعفاء المذكور، بينما يستفيد منه سائر الأجراء (غير المصرح عنهم أصلاً) من الأجانب واللبنانيين وأبناء طرابلس والبترون، لأنهم لن يعملوا بالسخرة وأجورهم الخيالية ستصيبها الشطور العليا من الضريبة التصاعدية على الأجور. هكذا تنتعش البلاد وتبنى الدول.
رزق الله على «إيدال»
أعضاء الهيئة يضحون، والدولة والبلديات تضحي، والعمال اللبنانيون والأجانب يضحون. المشغل والمستثمرون وبائعو السندويشات وبعض تجار الأراضي يكسبون.
أركان الانتظام العام يضحى بها: قانون العمل والحقوق المدنية للعمال، رقابة مؤسسات أساسية في الدولة من وزارة عمل وصندوق ضمان اجتماعي ووزارة أشعال عامة ومديرية التنظيم المدني وديوان محاسبة وإدارة مناقصات وتفتيش مركزي.
كل عمليات تحويل الثروة وهضم الحقوق هذه تتم من دون قيد أو شرط: لا تصريح عن العمال ولا احتساب لقيمة الإعفاءات ولا حدود زمنية لها ولا شروط ملزمة مقابلة.
صيغة «المناطق الاقتصادية الخاصة» مستوحاة من ترتيبات درجت في الإمارات، حيث تقوم السلطة بمنح أحد «المشغلين» امتياز «منطقة خاصة» فيقوم باستيفاء الإيجارات والرسوم من المؤسسات، ويحل محل الإدارات العامة حيالها. فتكون النتيجة تحويل الإيرادات العامة إلى جيب المشغل. صيغ كهذه ما كانت لتنشأ خارج واقع مجتمعي قوامه أن الغالبية العظمى من القوة العاملة أجنبية.
ثمة في لبنان، منذ تاريخ 16 آب عام 2001 قانون يحمل الرقم 360 أنشأ «المؤسسة العامة لتشجيع الإستثمارات في لبنان»، المعروفة باسم «إيدال». غايته، وفق اسبابه الموجبة، «توفير فرص عمل جديدة والمساهمة في نقل التكنولوجيا والمساعدة على تحسين وتطوير انتاجية القطاع الخاص وزيادة نسبة النمو وتفعيل حركة التصدير... وذلك من خلال منح (هذه الاستثمارات) حوافز مالية وضريبية متعددة وفقاً لمعايير محددة... كما (يلحظ القانون) سير معاملات الترخيص بعيداً عن الروتين الاداري والبيروقراطي المعقدة، على ان تفتح هذه الالية الباب امام اصلاح اداري شامل في المستقبل».
لذا لحظ القانون المذكور عدداً من الإجراءات لا بدّ من مقارنتها مع ما لحظ قانون «المنطقة الاقتصادية الخاصة». على الصعيد التنظيمي، لا يختص قانون «إيدال» بنطاق عقاري محدد بل يستند إلى تصنيف للمناطق اللبنانية وفقاً لتقدير مستويات تطورها الاقتصادي، فيحدد لكل من الفئات سقفاً متدرجاً للمنح، ويلحظ، لكل المناطق، إطاراً موحداً أسماه «سلة الحوافز». لم يلحظ «مشغلاً» بل أناط بمجلس إدارة المؤسسة المهام الإدارية والتنفيذية كافة. واعتبر المؤسسة مؤسسة عامة وأخضعها لنظام المؤسسات بما في ذلك الإجراءات المالية للموازنة العامة، ولم يستثنها من نطاق عمل السلطات الرقابية. واعتبر خدمة «الشباك الموحد» لتسهيل المعاملات إجراء تمهيدياً لتسهيل المعاملات الإدارية، وأخضعها للنظم المعمول بها من قبل الإدارات الأصيلة (عمل، تنظيم مدني، بلديات...) وأعطى هذه الأخيرة صلاحية الرفض، إنما ضمن مهلة محددة.
في ما خص «سلة الحوافز»، حصر القانون مسؤولية «إيدال» بتحضير الملفات ورفعها إلى مجلس الوزراء للموافقة على كل منها بمرسوم. والحوافز محدودة في الزمن ومشروطة بتنفيذ «المستثمر» لمندرجات العقد مع المؤسسة. والحوافز تقتصر على الإعفاء من الضريبة على الأرباح (وهي غير مؤكدة الحصول على خلاف الرسوم الإدارية والرسوم على الاستهلاك) وخفض رسوم إجازات العمل للأجانب إلى النصف (ما يعني عدم محو أثرهم)، على ألا تتعدى نسبتهم ثلث العاملين (عوضاً عن 50% أو 100% في قانون المنطقة الحرة)، مع إلزام التصريح والتسجيل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (كي لا يعاقب العاملون) وخفض رسوم رخص البناء إلى النصف والإعفاء من رسوم تسجيل العقارات.
هل من داع لإبقاء على إيدال بعد إنشاء المناطق الخاصة؟
خلال عام 2011، دعا وزير العمل في حكومة «كلنا للعمل» زميله وزير المالية، محمد الصفدي، إلى احتساب المتوجبات على المؤسسات المستفيدة من «سلة الحوافز» وتسجيل هذه المتوجبات في واردات المالية والإعفاء المقابل لها في نفقاتها، كي تعرف الدولة قيمة الحوافز «الممنوحة» وتتم مقارنتها بالمنافع المحققة، بناء على حد أدنى، لا مبرر لمنح الحوافز دونه، من الفاعلية في استخدام المال العام (مقارنة قيمة المنح من المال العام، الإعفاءات ناقص الإيرادات الإضافية الناتجة عن الأعمال، من جهة، بمردود المشاريع على الاقتصاد الوطني المقيم، أي حجم الأجور والتقديمات للعمال وحجم الأرباح غير المسربة إلى الخارج، من جهة أخرى)، فرفض وزير المالية هذا الطلب، أكان لأنه لم يفهم المقصود أو جرياً على عادته في رفض أي إجراء يسمح بضبط الأوضاع المالية والاقتصادية. رزق الله على إيدال وأيامها.
من مقارنة إيدال بــ«المنطقة الخاصة»، يمكن قياس تقدم الوقاحة في تدمير أسس الانتظام العام واستباحة حقوق المواطنين خلال 15 سنة.
ويجدر التذكير بأن الكتل الطائفية رفضت، جميعاً، بما فيها التي تدعي الحرص على «الشارع السني» وعلى «المحرومين»، لتقوية سطوتها عليهم ولصرف نفوذها، على حسابهم، في ساحة المحاصصة والاقتتال، التغطية الصحية الشاملة للبنانيين الممولة من الضرائب على المداخيل الريعية (بحيث ينتفي مبرر حرمانهم منها لقاء تحفيز مستثمرين افتراضيين).
إننا فعلاً نتقدم إلى الوراء، بخطى ثابتة وبإيقاع منتظم.
لفتة نظر وأحجية
يجدر لفت النظر إلى التشابه المريب بين نص المرسوم 1791، تاريخ 23/6/2009، الذي لحظ تكليف مجلس الإنماء والإعمار بردم مساحة 500,178 م2 من الأملاك العمومية البحرية من أجل إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس، ونص المرسوم غير المتخذ في مجلس الوزراء وغير الشرعي، الذي صدر بتاريخ 6/4/2011 رقم 5790، والذي قضى بردم مساحة 634,640 م2 مقابل شاطئ صيدا، من دون تحديد أية غاية له.
من يسبق فيكون له الفوز بالمركز المجلي: منطقة طرابلس التي حازت قانونها وهيئتها دون أن ينجز ردم البحر لإنشائها؟ أم صيدا برمدها شبه المنجز وإن كانت وجهة استخدامه مبيّتة؟ أم البترون باقتراح قانونها الجامع لقواها السياسية التي ما اجتمعت على شيء، وبمئات آلاف الأمتار الحرجية التي يطرحها دير كفرحي من الأوقاف التي لم توقف أصلاً خدمة لمطاعم السندويش وتجار العقارات؟
الدق حامٍ. وقد تدخل حلبته مناطق خاصة أخرى.
إنما بانتظار نتيجة السباق المفتوح، يبقى الثابت أننا بتنا بحاجة إلى لجنة تحقيق دولية، «خاصة» هي الأخرى، لمعرفة حصة المكر ودور الماكرين، مقابل حصة السذاج ودورهم، في صياغة سياسات الدولة الافتراضية التي نعيش فيها.
لكل إنسان في لبنان ولكل عامل، كل سنة وأنتما بخير.