ليس مستغربا أن تدفع الظروف الاقتصادية الصعبة اللبنانيين إلى الانخراط في سوق العمل من دون الحصول على تقديمات صحية أو ضمانات توفر لهم دخلاً يؤمن لهم عيشا كريما بعد التقاعد.
دفعت الظروف السيئة، وفق ارقام البنك الدولي ثلثي اللبنانيين الى العمل في القطاع غير النظامي للعمالة، بما يعني انهم لا يتقاضون رواتب لقاء عملهم، أو انهم يعملون دون ضمانات اجتماعية أو تغطية تأمين صحي. كذلك، يشمل العمل غير النظامي المؤسسات الصغيرة التي تعمل خارج الإطار الرقابي، والمؤسسات الكبيرة التي تتهرب جزئياً من سداد ضريبة الدخل والمساهمات في الضمانات الاجتماعية. ويشرح كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث لدى بنك عوده مروان بركات أن القطاع غير النظامي للعمالة هو الجزء من الاقتصاد غير المراقب من المؤسسات الحكومية الذي لا يدخل في حساب الناتج المحلي الإجمالي، وتاليا لا يخضع للضريبة. ويقدر إيرادات الدولة الفعلية من الضرائب المجباة على الدخل والأرباح بنحو مليار دولار فقط، بينما تصل الضرائب التي يمكن جبايتها إلى نحو 3 مليارات دولار، مما يعني أن الضرائب غير المحصلة هي بمقدار مليار دولار، وتوازي نصف عجز المالية العامة وتشكل 4.4% من الناتج المحلي الإجمالي.
ووفق التقرير الذي أنجز بعد اندلاع الاضطرابات الإقليمية، والذي ورد في النشرة الأسبوعية لبنك عوده Lebanon Weekly Monitor، ثمة 3 مؤشرات لقياس العمالة داخل القطاع غير النظامي: نسبة الناتج غير المصرح عنه إلى الناتج المحلي الإجمالي، والذي بلغ 35.1%، وفق مؤشر Schneider، وهي نسبة أقل في لبنان من النسب الرائجة في تونس والمغرب وليبيا والجزائر ومصر، ولكن أعلى من النسب الرائجة في سوريا والأردن واليمن. أما المؤشر الثاني فهو نسبة العاملين دون تغطية ضمانات اجتماعية. وفي الواقع، 65.5% من القوى العاملة في لبنان لا تفيد من الضمانات الاجتماعية. وأخيراً، المؤشر الثالث هو سيطرة المهن الحرة. إذ يذكر التقرير أن أصحاب المهن الحرة في لبنان يشكلون فقط 15.6% من مجموع العمالة، وهي نسبة أقل من النسب الرائجة في اليمن (32.4%) وتونس (34.2%) والمغرب (37.3%) ومصر (37.8%) وسوريا (53.9%) والجزائر (67.1%).
ويعتبر بركات أن النسبة المرتفعة للقطاع غير النظامي للعمالة والتي تمثل 35% من الاقتصاد في لبنان تقارن بنسب 28% في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا و17% في البلدان المتقدمة، وهو ما يظهر الحجم النسبي الكبير لهذا القطاع في لبنان. كما أن حصة المهن الحرة في لبنان مقتصرة على 16% من مجموع العمالة مقارنة مع 32% في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما يعود إلى المخاطر السياسية والاقتصادية الكامنة والتي تؤثر على بيئة الأعمال في لبنان. والعمالة غير النظامية هي سمة مشتركة بين البلدان المتأخرة النمو ((underdeveloped countries وهي مقرونة بشكل وثيق بالظروف السيئة، والرواتب المتدنية، والإنتاجية المنخفضة مقارنة مع السوق النظامية للعمالة. والعمالة داخل السوق غير النظامية هي الأعلى ضمن فئة الفقراء. فكلما ازدادت الثروة انخفضت العمالة غير النظامية التي لا تؤمن ضمانات اجتماعية. وفي لبنان، 82.5% من استهلاك العامل الفقير مصدره العمالة غير النظامية، وتتراجع هذه النسبة تدريجاً مع تحسن الوضع المادي لتصل إلى 35.1% بين الميسورين مادياً في لبنان.
كذلك، يختلف دخل الفرد في شكل ملموس بين القطاع النظامي للعمالة والقطاع غير النظامي في لبنان، حيث يستوفي العاملون في هذا القطاع غير النظامي رواتب أقل، كما أنهم يسجلون مستوى متدنياً للرضى عن عملهم. ويدفع القطاع النظامي للعمالة في لبنان - الذي يفيد فيه العاملون من ضمانات اجتماعية- راتباً أعلى بنسبة 30% بالمقارنة مع العمل عينه في القطاع غير النظامي، والذي لا يفيد فيه العامل من ضمانات اجتماعية.
ولا شك أن للمستوى العلمي ارتباطاً وثيقاً بنسبة العاملين في القطاع غير النظامي للعمالة الذين لا يستفيدون من ضمانات اجتماعية. فكلما ازداد التحصيل العلمي خفت هذه النسبة. ويشير تقرير البنك الدولي إلى أن 75.7% من العاملين في لبنان الحاصلين على الشهادة الابتدائية أو ما دون يعملون في القطاع غير النظامي للعمالة. وتتراجع هذه النسبة شيئاً فشيئاً مع ارتفاع التحصيل العلمي، لتصل إلى 28.4% للحاصلين على إجازة جامعية.
كذلك، تشير إحصاءات البنك الدولي إلى وجود معوقات أمام الانتقال من القطاع غير النظامي للعمالة إلى القطاع النظامي، إذ يصل متوسط الفترة التي يقضيها العامل في القطاع غير النظامي إلى أربع سنوات ونصف سنة. ويرى بركات أن الحجم الكبير للقطاع غير النظامي مرده إلى الإطار التنظيمي الثقيل في سوق العمالة، وضعف الإطار المؤسساتي والحوكمة، والعبء الضريبي الكبير عموما. إن هذه العوامل تزيد الكلفة التشغيلية داخل الاقتصاد النظامي وتدفع العاملين والمؤسسات الى الانخراط في القطاع غير النظامي لتفادي مثل هذه الكلفة.
وفي غياب مؤسسات وساطة للتوظيف في القطاع العام والخاص، تبقى العلاقات الاجتماعية مهمة للحصول على عمل في لبنان. وثمة، أكثر من 70% من العاملين في لبنان صرحوا بأنهم حصلوا على وظائفهم من خلال علاقاتهم، علما إن الاعتماد على العلاقات الاجتماعية بهذا الشكل الكبير يحد من فئة العناصر الموهوبة التي يمكن المؤسسات أن تختار منها. ويشار الى أن العمالة في القطاع غير النظامي تعني بشكل كبير العاملين في القطاع الخاص، لذا ينبغي وفق البنك الدولي إعادة التفكير في وضع السياسات، وخصوصاً في ما يتعلق بالإصلاحات المرجوة في سوق العمل ومفهوم الضمانات الاجتماعية.
ويعتبر بركات أن الوضع الراهن للقطاع غير النظامي في لبنان يجب أن يدفع واضعي السياسات الى تنفيذ الإصلاحات من أجل إزالة هذه العوائق وتطوير الإطار التنظيمي للأعمال وخلق بيئة تدعم تطبيق عادل للأنظمة واحتواء العبء الضريبي وتمكين العاملين في القطاع غير النظامي من تحسين مهاراتهم عموما.