يُثار من وقت لآخر موضوع التعدي على الأملاك العامة البحرية ومحاولة الإفادة من التسويات حولها لمدّ الخزينة بسيولة ومداخيل إضافية. وكان لتحرك الهيئات النقابية مؤخراً دور في إعادة تسليط الضوء على هذه الأملاك التي هي بالمبدأ ملك لكل المواطنين، لكنها تشهد تعديات مستمرة منذ أيام الحرب من قبل متمولين نافذين وحتى سياسيين أو أقاربهم. للأسف فالتجارب السابقة والبيانات الحكومية كل فترة عن إزالة التعديات، لا تؤكد إمكان حصول إنجاز على هذا الصعيد، أقله على المدى المنظور.
يتم تعريف الأملاك العامة البحرية بأنها كل الأملاك الملاصقة للملك الخاص وتقع في محاذاة الأملاك العامة مثل شواطئ البحر والأنهر وغيرها، أي هي التي تبدأ عند انتهاء المساحة العقارية وهي ملك عام وليست ملكاً للدولة. هذا الملك العام يتنوّع ما بين شواطئ رملية، ومياه أو أملاك عامة بحرية.
وتعتبر العديد من الجهات المهتمة بالإصلاح ووقف الهدر، أن الأملاك البحرية هي مكمن الهدر الأساسي في الدولة وإعادتها الى أحضان الدولة عبر إبرام عقود إيجار استثمارية لائقة كافية لتمويل الخزينة العامة بمبالغ طائلة.
مع ذلك، تبقى المخالفات البحرية من دون قانون يقمعها وينظّم إدارتها، رغم كل التصريحات والبيانات الوزارية التي تناولت الموضوع، ورغم كل محاولات تحصيل بعض حقوق الدولة المالية جرّاء التعدي على الأملاك البحرية العامة ومصادرتها لمصلحة أفراد تحوّلوا ما بين ليلة وضحاها، بفعل تغطية سياسية، إلى أثرياء. وإذا كانت المسألة تخطت الحق العام لكل مواطن بالنزول إلى الشاطئ مثلاً، ما دامت كل الحقوق منتهكة، فإن الجانب المالي يبقى مهماً، خصوصاً في ظل عجز الدولة عن سداد ديونها أولاً، والوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها ثانياً.
220 مؤسسة تشغل أملاكاً بحرية عامة
يبلغ عدد المؤسسات السياحية البحرية التي تشغل أملاكاً عامة حوالى 220 مؤسسة، حيث هناك إشغالات أخرى، منها تابع للوزارات والبلديات والجيش، وجزء كبير منها سكني قد لا يتعدى الغرفة الواحدة، فضلا عن ردميات تابعة لمؤسسة كهرباء لبنان.
أما المؤسسات السياحية البحرية، فمعظمها حاز تراخيص إشغال قبل قيامها في ظروف استثنائية خلال الحرب، وهذه التراخيص ألغيت في ما بعد، ما يجعل هذه المؤسسات شرعية، لكن غير قانونية.
تقرير رسمي عن المخالفات
كشف تقرير رسمي رفعته وزارة الأشغال العامة مؤخراً إلى رئاسة الحكومة “معطيات مذهلة”: رؤساء ووزراء ونواب حاليون وسابقون وأحزاب وقيادات حزبية وزعامات محلية وأتباع ومحاسيب يحملون صفة “مستثمرين” أو “متمولين”، ومؤسسات سياحية مشهورة وغير مشهورة ومنشآت صناعية وخزانات وقود وحقول زراعية ومرافق عامة وعسكرية وملاعب رياضية وأماكن للعبادة وشاليهات وقصور ومساكن خاصة! كل هؤلاء مشتركون في عمليات منظّمة ومحمية للسطو على الأملاك العامة البحرية.
وقد أعدّت الوزارة تقريراً شاملاً عن الأملاك البحرية، ورد فيه، كشف بأسماء المخالفين، وعدد المخالفات في كل الأراضي اللبنانية. كذلك تضمّن جداول بالمراسيم الصادرة والمخالفات، والمراسلات بين الوزارة والجهات المعنية حول التعديات لإزالتها ودفع الغرامات وفق المراسيم الموجودة.
وقد بلغ مجموع المخالفات على الأملاك العامة البحرية في الشمال والجنوب وبيروت وجبل لبنان، بحسب تقرير الوزارة، “1068 مخالفة، ونوعية هذه المخالفات ردم للبحر، وثمة مخالفات لدى أصحابها مراسيم صادرة وفق الأصول، إنما تجاوزوا بالتعدي المساحات المرخصة لهم”. وقد اعتبر وزير الأشغال العامة غازي العريضي تعليقاً على التقرير أن “الشاطئ أصبح ملكاً لمجموعة من الناس، ولا يستطيع المواطن العادي الاستفادة منه ومن مياهه”، كما رأى أن “الرسوم التي كانت موجودة متدنية جداً، وبرغم تعديلها اليوم تبقى ضمن الحد الأدنى مما يمكن أن يُجنى من الرسوم على الأملاك البحرية”، داعياً إلى “الإسراع في مناقشة مشروع القانون وإخراجه ليصبح مرسوماً في المجلس النيابي ويبنى عليه لمعالجة هذه المشكلة، وتحديد المسؤوليات والمبالغ المالية التي يمكن أن تعود إلى الدولة”.
طبعاً هذا التصريح وهذه الدعوات من قبل الوزير أتت قبل استقالة الحكومة. نظرة سريعة على بيانات أصدرتها الحكومات المتعاقبة بخصوص هذا الملف، لا تترك مجالاً للشك أن هذه الدعوات لن تجد الصدى المطلوب ولن تتم معالجة الملف كما يتوجب، بما أننا لحدّ الآن وحتى إشعار آخر نعيش في بلد لا وجود للمساءلة والمحاسبة فيه!
بيانات… “بلّوها و شربوا ميّتها”
نورد هنا بعض ما ورد في البيانات الوزارية وفي مواقف سياسية، جمعتها الشركة الدولية للمعلومات، عن الأملاك العامة البحرية:
- إعادة النظر في موضوع استثمار الأملاك العامة ولا سيما البحرية منها (من البيان الوزاري لحكومة الرئيس رشيد الصلح، أيار 1992)
- أما زيادة الواردات فتتم من خلال تحسين جباية الضرائب… وبدلات أشغال الأملاك العمومية (من البيان الوزاري لحكومة الرئيس رفيق الحريري الأولى، تشرين الثاني 1992)
- ستعمل الحكومة على معالجة التعديات على الأملاك العمومية البحرية (من البيان الوزاري لحكومة الرئيس عمر كرامي، تشرين الأول 2004)
- انطلاقاً من أهمية المحافظة على الشاطئ اللبناني الذي يعتبر ثروة كبيرة للبنان، فإن الحكومة ستسعى بالتعاون مع المجلس النيابي إلى إعادة تنظيمه بما يضمن حقوق الشعب اللبناني، وإلى معالجة مشكلة المخالفات على الأملاك البحرية العمومية (من البيان الوزاري لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، تموز 2008)
- المحافظة على الشاطئ اللبناني واتخاذ الإجراءات الآيلة إلى معالجة مشكلة المخالفات والتعديات على الأملاك البحرية العمومية حفاظاً على حقوق اللبنانيين جميعاً (من البيان الوزاري لحكومة الرئيس سعد الحريري، تشرين الثاني 2009))
- الإفادة من موارد البلاد وممتلكاتها كالنفط والمياه والأملاك العامة البحرية والنهرية… والعمل على الإسراع بإقرار مشروع قانون معالجة التعديات على الأملاك البحرية (البيان الوزاري لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، تموز 2011)
- أين أصبح ملف الأملاك البحرية التي نطالب به من عشرات السنين (تصريح للنائب وليد جنبلاط، حزيران 2012)
- إن وزارة النقل تتحمل مسؤولية المخالفات على الأملاك البحرية وإن قانون الأملاك العامة ينص على أن التسوية لا تشمل المخالفات على الأملاك العامة (تصريح للنائب محمد قباني، نيسان 2011)
- لرفع الغطاء السياسي عن كل المعتدين على الأملاك البحرية (تصريح لوزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي نيسان 2011)
إن موضوع “الأملاك البحرية” شغل ويشغل المعنيين بمحاربة الفساد منذ وقت طويل، مع العلم أنه يوجد مشروع قانون لمعالجة مشكلة التعديات في المجلس النيابي منذ العام 2006، إلا أنه لم يناقش حتى الآن! ما يشي بوجود تواطؤ خفي بين السياسيين على عدم إعطاء هذا الملف حقه من المعالجة. هذه المعالجة التي إن حدثت سيكون لها نتائج إيجابية على تفعيل هيبة الدولة أولاً، وعلى خزينة الدولة وماليتها العامة ثانياً