قبل بدء الحرب في غزّة، وتحديدًا عند مساء الجمعة 6 تشرين الأوّل 2023، كانت أسعار سندات اليوروبوند اللبنانيّة –أي سندات الدين العام بالعملات الأجنبيّة- ما زالت تتراوح عند مستويات تتجاوز 7.88 سنت للدولار الواحد، أي عند نحو 7.88% من القيمة الإسميّة التي كان يفترض سدادها عند الاستحقاق. بالتأكيد، يُعتبر هذا السعر سعرًا متدنيًا للغاية، مقارنة بقيمة الدين الفعليّة، إذ كان من الطبيعي أن تنخفض أسعار السندات في الأسواق الدوليّة، في ظلّ تخلّف الدولة اللبنانيّة عن سداد قيمتها منذ آذار 2020، من دون أن تشرع حتّى اللحظة بالتفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلة الدين العام.
لكن مع ذلك، كان أسعار سندات اليوروبوند في تلك اللحظة، أي مساء 6 تشرين الأوّل 2023، أعلى بنسبة 43% من أسعارها في أواخر العام 2022، والتي لم تكن تتخطّى في بعض الأحيان مستوى 5.5 سنت للدولار. ببساطة، كان أسواق اليوروبوند اللبنانيّة تعيش تفاؤلًا ملحوظًا، مقارنة بالفترات السابقة، ربما بفعل رهان حملة السندات على مآلات ملف استكشاف الغاز، أو على بعض الأخطاء التي ترتكبها الدولة اللبنانيّة، والتي ستصب في مصلحة الدائنين الأجانب (راجع المدن). وبفعل المضاربات التي حصلت قبل تشرين الأوّل 2023، ارتفعت أسعار سندات اليوروبوند لتلامس 8 سنت للدولار.
إلا أنّ كل هذا المسار انتهى بمجرّد اندلاع الحرب في غزّة، مع كل المخاوف من توسّع الاشتباكات في جنوب لبنان، بالإضافة إلى تزامن هذه الأحداث مع خبر عدم العثور على كميّات تجاريّة من الغاز في البئر الاستكشافيّة جنوبًا.
هبوط أسعار سندات اليوروبوند بعد الحرب
في حصيلة تداولات الأسبوع الماضي، عادت أسعار سندات اليوروبوند اللبنانيّة لتسجّل مستويات متدنيّة لامست مستوى 5.5 سنت للدولار، تمامّا كما حصل في أواخر السنة الماضية. أي بمعنى أوضح، ومنذ اندلاع الحرب في غزّة، خسرت هذه السندات 30% من قيمتها، مقارنة بمستويات ما قبل الحرب، وهو ما أعادها إلى أدنى مستوى لها منذ منتصف حزيران 2023. مع الإشارة إلى أنّ هذا المستوى المنخفض جاء نتيجة انخفاضات أسبوعيّة متتاليّة، تم تسجيلها على مدى شهري تشرين الأوّل وتشرين الثاني الماضيين. وبهذا الشكل بدّدت التطوّرات الأخيرة كل الارتفاعات الماضية في سعر سندات اليوروبوند.
بالتأكيد، لا تحمل هذه التطوّرات أي خسارة أو كلفة بالنسبة للدولة اللبنانيّة، التي تمثّل الطرف المدين في هذه المعادلة، لمصلحة حملة السندات، أصحاب الدين، الذين يتحمّلون وحدهم كلفة الانخفاض أو الارتفاع في قيمة السندات عند تداولها. وحتّى المصارف التجاريّة، لم تعد تمثّل طرفًا متضرّرًا رئيسيًا، بعدما تراجعت قيمة محفظة سندات اليوروبوند التي تحملها من 14.86 مليار دولار أميركي في أواخر 2019 إلى أقل من 2.66 مليار دولار أميركي اليوم. وجاء هذا الانخفاض طبعًا بفعل لجوء المصارف إلى بيع السندات التي تملكها في الأسواق الدوليّة.
ومع ذلك، ورغم من محدوديّة الآثار المباشرة لهذه التطوّرات على الاقتصاد المحلّي، يبقى من المهم مراقبة هذه التحوّلات، لكونها تعكس مدى تفاؤل أو تشاؤم الدائنين بخصوص قيمة الدين التي سيتم استردادها من الدولة اللبنانيّة. مع ضرورة التنويه بأنّ الجزء الأكبر من حملة سندات الدين، والمضاربين على هذه السندات، هم من كبار الصناديق الاستثماريّة العالميّة، التي تملك بدورها مديريّات مختصّة بجمع المعلومات وتحليلها وترقّب مآلات الوضع المالي في كل بلد، وتأثير ذلك على مستقبل الديون السياديّة وأسعار السندات الدوليّة المتداولة. ومن المعلوم أنّ هذه الأطراف سبقت معظم اللبنانيين –بمن فيهم بعض "الخبراء"- في ترقّب الانهيار الذي حصل في تشرين الأوّل 2019، وهو ما يمكن رصده بسهولة في تطوّر أسعار السندات وكلفة التأمين عليها في الأسواق العالميّة قبل الانهيار.
الحرب والغاز وحملة السندات
لا يحتاج المرء لكثير من التحليل ليفهم العلاقة ما بين انخفاض أسعار السندات، والمخاوف المتصلة بالحرب في المنطقة، خصوصًا أن مسار انخفاض الأسعار بدء منذ لحظة اندلاع حرب غزّة، أي قبل أن يتم الإعلان عن عدم العثور على كميّات تجارية من الغاز في البلوك رقم 9. ومع ذلك، يمكن القول أنّ بيان وزارة الطاقة، الذي أكّد انتهاء أعمال الحفر في البلوك وعدم العثور على الكميّات التجاريّة، زاد من سوداويّة المشهد بالنسبة لحملة السندات. مع العلم أنّ التشاؤم بخصوص مسار ملف الغاز في لبنان، يرتبط بشكل وثيق بالأحداث العسكريّة الجارية، إذ أنّ استمرار الاشتباكات على طول الحدود الجنوبيّة سيقلّص طبعًا من الجاذبيّة الاستثماريّة للبلوكات البتروليّة اللبنانيّة في المستقبل، ما قد يبطئ من وتيرة الاستكشاف فيها.
في جميع الحالات، بالنسبة إلى ملف الغاز، ستتوقّف جميع التطوّرات –بما فيها تفاؤل أو تشاؤم حملة السندات- على مسألتين. الأولى هي الخطوة المقبلة بالنسبة للشركات التي تملك حق الاستكشاف في البلوكين 4 و9، والتي لم تتضح حتّى اللحظة، بعدما تم الانتهاء من أعمال الحفر في البئر الأخيرة بنتائج سلبيّة. أمّا الثانية، فهي الخطوة المقبلة من ناحية الدولة اللبنانيّة، بخصوص تلزيم البلوكين 8 و10، بعدما تلقّت الدولة عرضين لأعمال الاستكشاف والاستثمار في البلكوين من نفس الشركات الثلاث التي تحوز على رخص الاستكشاف والاستثمار في البلوكين 4 و9.
في خلاصة الأمر، يبقى من الأكيد أنّ مصالح حملة السندات هي في موقع النقيض لمصالح الدولة اللبنانيّة والماليّة العامّة، إذ من المفترض أن يراهن الدائنون –كما هو متوقّع- على تحصيل أكبر قيمة من السندات التي يحملونها، في حين يفترض أن تراهن الدولة على تحصيل أكبر مكاسب عند إعادة هيكلة الدين العام في المستقبل. ولهذا السبب، لا يفترض أن تحليل تفاؤل أو تشاؤم أسواق سندات اليوروبوند إلّا من هذه الزواية بالتحديد، ما يفرض التروّي قبل تحليل ارتفاع أسعار السندات كحدث إيجابي بالمطلق، أو العكس.