ماهر سلامة
السياحة هي أحد الوعود التي أخذها «عهد لبنان الجديد». فقد تردّد بأن الدول الخليجية لن تضخّ تدفقات نقدية في شرايين الاقتصاد اللبناني، بل ستعيد فتح العلاقات مع لبنان، ما يعني عودة السياح.
يثير الأمر سؤالاً: هل بناء الاقتصاد المستقبلي على أساس القطاع السياحي هو الخيار الأمثل؟ فقد سبق أن حاول لبنان بناء اقتصاد يعتمد بشكل أساسي على قطاع الخدمات الذي تضخّمت حصّته من الناتج المحلي الإجمالي إلى 80% فيما كان عجز الحساب الجاري يزداد للثقل الذي يمثّله هذا القطاع على استيراد السلع.
وقد أتى هذا التورّم في قطاع الخدمات على حساب القطاعات المنتجة، الحقيقية، مثل الصناعة والزراعة وغيرها التي لم تستطع تحسين موقعها ومساهمتها في النموّ.
كان القطاع السياحي، من ابرز أركان قطاع الخدمات، إذ شكّل مصدراً أساسياً للدخل قبل عام 2011. في تلك السنة أنفق السياح نحو 8.78 مليار دولار، أو ما يمثّل 22% من الناتج المحلّي.
ولم تكن دول الخليج هي أكثر الدول التي تُصدّر السياح إلى لبنان، إلا أنها كانت أكثر الدول التي ينفق مواطنوها في لبنان فبلغت حصّة السياح السعوديون والكويتيون سوياً نحو 33% من إنفاق السياح في تلك السنة بحسب تقرير صادر عن هيئة تشجيع الاستثمار في لبنان (IDAL).
وبعد 2011، ولأسباب متعددة، منها مخاطر اندلاع الحرب السورية التي أدّت إلى دخول سيارات مفخخة من سوريا إلى لبنان وحوادث خطف بالجملة، أصبح الوضع الأمني يشكّل خطراً على السياحة.
مخاطر الاعتماد على السياحة كبيرة ربطاً بحالة انعدام الاستقرار في لبنان وفي محيطه
أيضاً أدّت التجاذبات السياسية، مع اشتداد الصراع السياسي الاقليمي، إلى زيادة حدّة المخاطر، فاتخذت دول الخليج موقفاً من لبنان وأصبحت السياحة إلى لبنان غير مُرحّب بها. ومع ذلك، بقيت السياحة تُشكّل جزءاً مهماً من الاقتصاد اللبناني، ففي عام 2018 كانت السيحة تمثّل نحو 19% من الناتج المحلّي الإجمالي، وهو تراجع بسيط مقارنة بحجم الأحداث التي شهدها البلد، خلال الحرب السورية والأزمات السياسية الداخلية التي حصلت بين 2011 و2019. إلا أن حصة السعودية والكويت من إنفاق السياح انخفضت إلى 26% في 2017.
بعد الأزمة، والتي تزامنت مع جائحة كورونا التي قضت على القطاع السياحي في العالم لعدّة أعوام لاحقة، تأثّر القطاع السياحي في لبنان أيضاً، وانخفض حجم الإيرادات السياحية إلى نحو 3.16 مليارات دولار في 2021، وهو أقل من نصف ما كان عليه في 2011. وتغيّرت هيكلية السياح القادمين إلى لبنان، حيث أصبح جزء كبير منهم هم المغتربون الذين يأتون إلى البلد في فترات الأعياد. وقد عادت أرقام السياحة للارتفاع لكن ليس إلى المستويات التي كانت عليها قبل الأزمة.
أما رهان اليوم على إعادة القطاع السياحي إلى ما كان عليه قبل الأزمة فهو ليس إلا إعادة إنتاج لنفس النظام الاقتصادي الذي انهار عام 2019. فالاعتماد المفرط على قطاع الخدمات، وخاصة السياحة، يُبقي الاقتصاد اللبناني في وضع هشّ وعرضة للصدمات الخارجية، سواء كانت سياسية أو أمنية أو حتى صحية كما حصل مع جائحة كورونا. إن أي اضطراب في العلاقات السياسية الإقليمية، أو أي تدهور أمني، قد يؤدي إلى انهيار هذا القطاع مجدداً، مما يفاقم الأزمة الاقتصادية بدلاً من حلّها.
الأرقام تثبت أن القطاعات المنتجة، مثل الصناعة والزراعة، لم تُعطَ الفرصة للنمو الكافي قبل الأزمة، بل إنها تقلّصت بشكل ملحوظ. ففي عام 2018، لم تمثّل الصناعة سوى 14% من الناتج المحلي، والزراعة 4% فقط، وفقاً لإحصاءات البنك الدولي.
بينما في الدول المستقرة اقتصادياً، نجد أن هذه القطاعات تشكّل نسباً أعلى بكثير من الناتج المحلي، ما يعكس قاعدة إنتاجية متينة. فالاعتماد على الإنتاج الحقيقي، هو ما يجعل الاقتصاد متيناً، ويجعله غير معرّض للعوامل الخارجية بشكل كبير (مقارنة بحالة الاعتماد على القطاع السياحي).
إضافة إلى ذلك، فإن الوظائف التي يخلقها قطاع السياحة والخدمات ليست مستقرّة، فهي تعتمد على المواسم السياحية، وغالباً ما تكون ذات أجور منخفضة ولا تؤمّن استدامة اقتصادية للأفراد، وهذا الأمر لا يخلق استقراراً جدياً في الاقتصاد.
في المقابل، الاستثمار في الصناعة والزراعة، على سبيل المثال، يعني خلق وظائف دائمة وتحقيق قيمة مضافة محلية، مما يقلّل من الاعتماد على الاستيراد ويعزز الاكتفاء الذاتي. بمعنى آخر، الاعتماد على الإنتاج فوائده مزدوجة، أولاً على الحركة الاقتصادية الداخلية، إذ يغذيها ويجعلها «مستدامة»، وثانياً على صعيد الحسابات الخارجية، بحيث يكون الإنتاج الداخلي بديلاً عن الاستيراد أو مصدراً للأموال الصعبة بسبب التصدير، مما يسهم في تحسّن وضع العملة المحلية وبالتالي القدرات الشرائية المحلية.
من هنا، فإن العودة إلى الاعتماد على قطاع الخدمات تعني تكرار أخطاء الماضي. لبنان بحاجة إلى استراتيجية اقتصادية جديدة تقوم على تنويع الاقتصاد، وتحفيز الإنتاج المحلي، ودعم القطاعات التي يمكن أن تؤمّن استقراراً اقتصادياً بعيد الأمد، بدلاً من بناء الاقتصاد مجدداً على قاعدة غير مستقرة وعرضة للانهيار عند أول أزمة سياسية أو مالية جديدة.