مع سبق الإصرار والترصد، يقوض الرئيس الأميركي دونالد ترامب أسس كل شي، من أول خارطة اهتمامات الولايات المتحدة وسلم أولوياتها، وحتى خارطة التحالفات، والمهام، والأدوات.
مقياس النجاح عنده في طور البدايات الرئاسية، أصبح مقدار ما أنجز من مهام التقويض والهدم، باعتبار ذلك مقدمة لا غنى عنها، لإقامة نظام عالمي وفق مقاييس دونالد ترامب.
عالم ترامب، طبقاً لتصورات فريقه، مغاير تماماً للعالم الذي شاركت الولايات المتحدة في رسم خرائطه ووضع قوانينه، ومؤسساته عقب أول وآخر قصف نووي فوق هيروشيما وناغازاكي، وانتهاء الحرب العالمية الثانية.
يحرص ترامب طول الوقت على الظهور أثناء توقيع مراسيم رئاسية، تصبح حديث الدنيا لفرط حرصها على هدم جهاز، أو مؤسسة، أو للإنشقاق على إرادة دولية صاغتها -في الماضي البعيد أو القريب- حسابات ، أو مصالح وتقديرات أميركية. لكنه- حتى الآن- لا هو حقق التفعيل الكامل لإرادته قسراً، رغم أنف الجميع، ولا هو تراجع عن قرار أعلن على الملأ، أنه قد اتخذه، وأنه عازم على تطبيقه. وإن كان حريصاً في كل مرة على إعلان أن الجميع سعداء بقراراته، ومستعدون للوفاء باستحقاقاتها.
حدث ذلك مثلاً بعد إعلان اعتزامه تحويل كندا الى الولاية رقم واحد وخمسين، وهو ما وصفه جاستن ترودو رئيس وزراء كندا، بأنه" أمر حقيقي". وأضاف ترودو الذي تحدث أمام ميكروفون ظنه مغلقاً في ختام موتمر قمة اقتصادية كندية-أميركية، أن "تهديد ترامب بضم كندا الى الولايات المتحدة هو أمر حقيقي. ترامب لديه في ذهنه أن أسهل طريقة للقيام بذلك هي ضم بلدنا، وهذا أمر حقيقي".
أحاديث ضم كندا، تراجعت ليحل محلها قرار ترامب بشأن فرض رسوم جمركية على الواردات الكندية، ثم أعقبه قرار آخر بتعليق تطبيق الرسوم الجمركية على كندا، لمدة ثلاثين يوماً.
ضجيج ترامب بشأن ضم كندا، كان هدفه تمرير قراره بفرض رسوم جمركية باهظة على واردات الولايات المتحدة من كندا، وهو ما قد حدث بالفعل، حتى ان رئيس الوزراء الكندي بدا كمن يحتفي بتعليق تنفيذ التعرفة الجديدة لمدة شهر واحد.
نفس الجلبة جرت مع قرار ترامب بشأن السيطرة على قناة بنما بدعوى (إحنا اللي حفرناها)، وكذلك، الجلبة التي أعقبت حديثه عن ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة، وكذلك تغيير اسم خليج المكسيك ليصبح خليج أميركا.
فضاء الصخب الرئاسي الأميركي، كان يرتفع كلما انتوى ترامب تحقيق تغيير ما، في سياسة ما، بشأن أمر ما، إلى أن قرر الرجل رفع فضاء الصخب في الشرق الأوسط، وتسريع خطى التوسع الإقليمي الإسرائيلي على حساب ما تبقى من أراضٍ فلسطينية في غزة والضفة الغربية.
تحدث ترامب كمطور عقاري، عن مستقبل غزة التي يريد أن يتسلمها من إسرائيل، خالية من شعبها - بعد نقله الى أي مكان خارجها - فقدّر أن إعادة إعمارها لتصبح "ريفييرا" تليق بمتطلبات راغبي المتعة من أثرياء العالم، تستغرق خمسة عشر عاماً، وتتكلف أكثر من 350 مليار دولار، فتصدى للرد عليه مطور عقاري مصري (هشام طلعت مصطفى)، مؤكداً أن مشروع إعادة إعمار قطاع غزة، يمكن أن يستغرق ثلاث سنوات فقط، بتكلفة إجمالية سبعة وعشرون مليار دولار، وأنه من الممكن انجازه دون حاجة لإخلاء القطاع من شعبه، شريطة أن يتم تأهيل خمسين شركة مقاولات كبرى للعمل بالمشروع.
عناوين ساخنة لأفكار لم تنضج بعد، وضعت الجميع في مأزق، فالتصور الأميركي بشأن استعمار غزة وطرد سكانها، يبدو مستحيلاً، والتصدي لهذا التصور يبدو مكلفاً.
خلفية ترامب كمطور أو سمسار عقاري، تبدو حاكمة لسلوكه وتصوراته كرئيس لأكبر قوة عالمية عرفهاالتاريخ، فالرجل يتعامل مع العالم بقاراته الست، باعتباره خارطة للفرص والمساومات، وهو يتوقع طيلة الوقت أن يستجيب العالم لتطلعاته كزعيم لدولة عظمى، لكن عربة الأفكار عند ترامب تبدو بدون كوابح.
طرح ترامب بشأن مستقبل غزة والضفة، يضع النظام الإقليمي العربي برمته، في مواجهة خيارات بالغة التعقيد، فالطرح مستحيل، والتصدي له باهظ الكلفة، لكنه يظلّ مع ذلك ممكناً، اذا أمكن شراء المزيد من الوقت، وبناء مشروع متكامل للحل، يبدأ من الإجابة عن أسئلة اللحظة: من سيدير غزة؟ و ما مصير حماس؟ من سيتولى إعادة الإعمار؟ من سيتحمل الأعباء المالية لإعادة إعمار غزة؟ ما هي الضمانات الممكنة لإعلان هدنة تمتد الى حين التوصل الى تسوية سلمية، سواء وفق حل الدولتين أو وفق حل دولة واحدة لشعبين، وفق الصيغة التي أمكن بلوغها في جنوب افريقيا؟
ترامب لا يريد غزة وحدها، لكنه يريد عالماً أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة.
هل هذا ممكن؟!