... وهكذا أبْصَرتْ هذه الحكومة النور، وتخطَّتْ «بالبركات»، ما كان يدور حول تأليف الحكومات من شغورٍ على مدى شهور...
الرئيس نبيه بري نسَبَ إلى «بركات عيد مار مارون» حلَّ عقدةِ الوزير الشيعي الخامس، وليس من المستبعد أن تكون «بركات» الإمام علي بن أبي طالب وراء حلِّ ما قدْ يشكّلُ عقدةً في البيان الوزاري.
في تأليف الحكومة، كما في انتخاب الرئيس جوزاف عون، كان الثنائي الشيعي هو العقدة وكان هو الحلّ، وكلّما استعصى عليه أمرٌ يلجأ إلى الذكاء الإصطناعي.
الذين ليسوا على إلمامٍ بالأدب العربي يجهلون أنّ في هذا الأدب فنّاً نثريّاً إسمه «المقامات»، ولكلِّ مقامةٍ بطلٌ لا يتورَّع عن استخدام البراعة الفنيّة وكلّ وسائل الدهاء للوصول إلى مبتغاه، وفي شتّى الإستحقاقات الدستورية غالباً ما يكون لبطل المقامات مقامةٌ تقوم مقام الدستور.
المهمّ، أنّ هذه الحكومة تألّفت بعد بعضِ مخاض، والأهمّ الأعظم، إحسانُ اختيار أعضاء هذه الحكومة بما يتحلّون من مواهب واختصاصات عالية الكفاءات، وكان كلٌّ منهم في الموقع الذي يتلاءم مع مؤهّلاته لا مع تحزُّباتِه.
يقولون: ما هو الفارق بين وزراء حزبيّين ووزراء يتمّ اختيارهم من لوائح الأحزاب، ولماذا الإستعانة دائماً بنسخة «طبق الأصل» فيما تظلّ مرتبطةً بالأصل؟
وفي اعتقادي، أنّ هذه النوعية الحكومية المميَّزة في مكانتها الثقافية والإجتماعية - عدا عن كونها مكشوفةً أمام المراصد - فلا نظنّ أنّ سيرتها الذاتية تسمح لها بأن تكون كرامتها الذاتية مسخّرةً للتبعية، أو أن تسخِّر مصالحَ العباد لمصلحة الأسياد.
المفارقة المُلْفِتة، أنّ هذه الحكومة تضمّ خمسَ وزيرات يتفوَّقْنَ بمهارات متنوّعة على المستوى العالمي، ومن خلال إطلالاتٍ لهنّ في الإعلام كان في الكلام طلاقةٌ وثقافةٌ واسعةُ المدارك.
لقد ملَلْنا من الحكومات الميكانيكية التي تمارس السياسة على أنّها الإسم الدبلوماسي للفساد...
وملَلْنا حكومة تيمورلنك وسياسة «المغول»: كلّما دخلوا دولةً هبَّت فيها النار...
وملَلْنا سياسة الحاكم بأمر الله، الذي حرَّمَ أكلَ «الملوخية» لأنّ معاوية كان يحبّها...
وملَلْنا سياسة معاوية مع المسلمين: كلّما شدّوا أرخى وكلما أرخوا شدّ...
وملَلْنا مقولةَ: أنّ الحكومة والمعارضة فئتان: فئةٌ حكمتْ فأفسدتْ، وفئة تُفسدُ لتحكم.
لعلّنا مع هذه الحكومة الراقية المواهب، نستطيع أنْ ننتشلَ هذه الضحيّة التي إسمها السياسة من سوق البغايا وقبضة الجلادين، لنمارس السياسة بمعناها اليوناني والتي تعني: الدولة والوطنية والسيادة والدستور والنظام والجمهور... وإنْ شئت أن أغوص أكثر في العمق الفلسفي للسياسة، أستشهد بما جاء على لسان: أفلاطون والفارابي وإبن خلدون والقديس أوغسطينوس والقديس توما الأكويني الذين يرفعون السياسة إلى منزلة العلم الإلهي.
نعم: الدولة ليست مصطلحاً تاريخياً مقدّساً، وفي التاريخ ليس هناك مقدّسات، ولكنَّ الدولة والديمقراطية والنظام والدستور هي قيَمٌ تتجنَّد في خدمة الإنسان، والإنسان الذي هو على صورة الله تُعتبَرُ خدمتُهُ شأناً مقدّساً.
شعار هذه الحكومة هو «الإصلاح والإنقاذ»، والإصلاح والإنقاذ يستهدفان حكماً جوهر إنسانية الإنسان: كياناً وكرامة وحقوقاً وحريةً وتعزيزَ شأن.
لقد آنَ لهذا الإنسان في لبنان أنْ يحيا إنسانيته في وطنٍ جعلوه مقبرة للأحياء.