عقد المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين و شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية ورشة حوار حول المجتمع المدني ودوره والمشاكل التي يعاني منها، الحوار انطلق بمشاركة عدد من الوجوه الاكاديمية بالاضافية إلى ناشطين في المجتمع المدني، وقدم ورقة النقاش الباحث والنقابي غسان صليبي، وعقب عليه الباحث أديب نعمة، وفي ما يلي نص الورقة البحثية التي قدمها صليبي:
يعرض هذا النص ويناقش ملاحظات وتساؤلات، يطرحها عادة الباحث في مرحلة ما قبل صياغة اشكاليّة بحثه وفرضياته. وهو نص يرغب الكاتب بتطويره لاحقًا، عبر النقاش او عبر البحث الميداني إذا توفّر له ذلك.([1])
تتمحور الأفكار حول تجربتيّ الحراك الإجتماعيّ من اجل النفايات والضرائب.
لقد جرى اختيار التجربتين لاعتبارات ثلاثة على الأقل. أولاً كون التجربتين شهدتا تعبئة شعبية واسعة حول مطالب إجتماعيّة وبيئية. ثانيًا لانه انبثق عن التجربتين وغيرهما مجموعات شاركت في الانتخابات النيابيّة تحت اسم "المجتمع المدني". ثالثًا لانه في مرحلة تتناسل فيها المشكلات الإجتماعيّة والبيئيّة ويواجه البلد خطرًا حقيقيًّا في الافلاس، نحن بأمس الحاجة الى أبحاث ودراسات ميدانيّة اذا امكن تساعد الجماعات الضاغطة على الدفاع عن حقوق المواطنين والمواطنات، سيما في ظل القصور على مستوى الفعاليّة، الذي تميّز به الحراكان المذكوران.
ينطلق النص من ملاحظة غياب إستراتيجيات ضاغطة لتحقيق المطالب التي رفعت في الحراكين، في مقابل نزعة نحو إعطاء معنى أو مدلول سياسي للتحركات. وبعد مناقشة النزعة السياسيّة ومفهوم التغيير السياسي المطروح من قبل مجموعات "المجتمع المدني" المنبثقة من الحراكين والتي شاركت في الانتخابات النيابيّة، يتناول النص طروحاتها الإقتصاديّة الإجتماعيّة وينتهي ببعض الملاحظات العامة حول عمليّة الربط بين التغيير الإقتصادي الإجتماعي والتغيير السياسي.
الهاجس "السياسي"
يصعب على الباحث تلمّس إستراتيجية ضغط في حراكيّ النفايات والضرائب (2017-2015)
المطالب غير واضحة إلاّ من حيث رفض ما هو مطروح من قبل السلطة؛ وسائل الضغط المستخدمة تعبوية أكثر منها ضاغطة على صانعي القرار؛ غياب شبه كامل لهمّ المفاوضة مع السلطات.
بالمقابل يلاحظ بذل مجهودات كبيرة باتجاه تسجيل "نقاط" سياسيّة: احتجاز وزير البيئة، استماتة المتظاهرين لتجاوز الحواجز الحديديّة وللوصول الى المجلس النيابي وغير ذلك... إضافةً الى السعي الدؤوب للتوصّل الى "برنامج سياسي" يتجاوز المطالب المحددة أساسًا للحراك.
كانت ملفتة وصادمة عدم إقدام "الحراك ضد الضرائب" على أية مبادرة لملاقاة زيارة الرئيس الحريري للمتظاهرين يوم الأحد 19 آذار 2017 ([2]).
فقد جاءت زيارة الحريري في وقت تراجعت فيها القوى السياسيّة في الحكومة عن موقفها من الضرائب المزمع فرضها. وكانت تسعى لتلميع صورتها أمام رعاياها، على أبواب الانتخابات النيابيّة. كما ان الحريري ارفق بزيارته دعوة الى المتظاهرين عبر تويتر "لتشكيل لجنة ترفع مطالبها لمناقشتها بروح إيجابيّة".
هل يمكن تفسير احجام قيادات الحراك عن المفاوضة بواحدة أو أكثر من الأسباب التالية:
* العجز عن الإتفاق على قيادة واحدة أو مطالب موحّدة
* ضعف تمثيل اصحاب المصلحة المباشرة (الاجراء، النقابات..)
* عدم الرغبة في تسليف القوى السياسيّة نجاحًا ولو نسبيًّا في التجاوب مع المطالب الشعبيّة
* عدم حماس بعض قيادات التحرّك الراغبة في الترشّح للانتخابات النيابيّة، للربح على المستوى الاقتصادي- الإجتماعي والتراجع النسبي على المستوى السياسي الانتخابي.
قد يكون وراء موقف "الحراك" أسبابًا أخرى تحتاج معرفتها الى مقابلات مع المعنيين. الظاهر في الأمر هو ان الحراكين، حول النفايات وحول الضرائب، لم يركّزا على مطالب محدّدة متعلّقة بالنفايات أو بالضرائب، بل توسعًا في مطالبهما، ليشملا مطالب إقتصاديّة إجتماعيّة أخرى ومطالب ذات بعد "سياسي". فبالإضافة الى طرح مشاكل البطالة، هشاشة العمل وتسليع الخدمات العامة([3])، جرى إدانة الحكومة والاحزاب الطائفيّة والفساد والنظام الطائفي)[4]).
للأسف لا يطرح البحثان المذكوران في المراجع ادناه أسئلة حول تعدّد المطالب والنزوع "السياسي". بل يتعاملان مع الظاهرة وكأنها طبيعيّة.
أكثر من ذلك، البحث الأول (كرباج) حول حراك النفايات، يقيّم سلبيًّا هذا الحراك لأنه كان عاجزًا "عن ترجمة مطالب المشاركين الى برنامج سياسي موحّد". كما يعتبر إنتصارات الحراك رمزيّة لأنها لم تمس "البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة للنظام". أي لا تساؤل حول اسباب النزوع السياسي لحراك ذات مطلب بيئي واضح، بل اهتمام باسباب عدم قدرة الحراك على انتاج برنامج سياسي موحّد.
أمّا البحث الثاني (أبي ياغي وآخرون) ولانه يتناول في مقاربة واحدة، الحراك من أجل إسقاط النظام الطائفي والحراك حول النفايات، فهو ينشغل بأسئلة بحثيّة تطال الهويات السياسيّة في ظل النظام الطائفي.
إذا سلّمنا بـ "صفاء النيات" لدى قيادات الحراكين، حول النفايات وحول الضرائب، وهذا ما اميل الى اعتقاده، يدل نزوعهم "السياسي" على إفتراضهم ان تحقيق المطالب الاقتصاديّة الاجتماعيّة يستوجب تغييرًا سياسيًّا.
"والتغيير السياسي" كما بدى من أدبيات قيادات الحراك الذين تحمّسوا للإنخراط في الترشيح او في دعم الترشيح للانتخابات النيابيّة، يتراوح بين "خرق" لوائح السلطة وبناء "الدولة المدنيّة".
وإذا كان تواضع الهدف بخرق اللوائح من جهة والطموح الكبير ببناء الدولة المدنيّة من جهة ثانية يعكس تناقضًا في النظرة الى الذات والإمكانيات، فإن المبدأ بالنسبة للذين ترشّحوا على لوائح ما سمّي "بالمجتمع المدني"، هو بنقل النشاط من "الشارع الى البرلمان"، حيث ان "الإنتخابات هي إستمرار طبيعي للنضال الذي بدأ سنة 2015 (حراك النفايات)" ([5]).
هنا أيضًا، يتبنّى البحث (حلو) الذي أجرى المقابلات مع بعض المرشحين والمرشحات مقاربة مرشحيّ "المجتمع المدني"، فيقرّ بأن وعي هؤلاء يشير الى ان مجموعات المجتمع المدني وصلت الى "مرحلة من النضج السياسي... حيث توصّلت الى إدراك ان السياسة لا تتعلّق بالاحتجاج وبمعارضة الحكومة فحسب، بل يمكن ان تكون أيضًا طريقة لتحدّي النظام من الداخل" ([6]).
الأرجح ان قيادات حراكيّ النفايات والضرائب، ومعهم الأبحاث الثلاثة المذكورة، لا تنظر الى الحراكين كجماعات ضغط لتحقيق مطالب معيّنة، بل تنظر اليها كمجموعات معارضة سياسيّة.
لقد سبق وأجريت مقاربة بين النهجين.([7])
نهجان مختلفان: جماعات الضغط والمعارضة السياسية
نهج الجماعات الضاغطة يوفّق عادة بين الضغط والمفاوضة، واضعًا نصب عينيه تحقيق المطالب، في حين ان نهج المعارضة السياسيّة يتوسّل المطالب والتحركات الضاغطة لتغيير الحكومة أو في أسوء الحالات لإظهار السلطة السياسيّة في موقع المخطىء أو العاجز. الجماعات الضاغطة تنجح إذا بقيت الحكومة وأجبرت على تحقيق المطالب. المعارضة السياسيّة تنجح إذا وقفت الحكومة عاجزة عن تحقيق المطالب وأجبرت على الرحيل. الجماعات الضاغطة واقعيّة في مطالبتها لأن ما تقوله يجب ان تتفاوض عليه. في حين ان المعارضة السياسيّة تميل عادة الى تضخيم الأمور لأن ما تقوله لن تتفاوض عليه، فهو بالأساس غير موجّه الى السلطة السياسيّة بقدر ما هو موجّه الى الرأي العام. الجماعات الضاغطة تحرص على إستمرار العلاقة التفاوضيّة مع السلطة التقريريّة، كوسيلة أخيرة في نهاية الأمر لتحقيق المطالب. المعارضة السياسيّة لا تعتبر التفاوض مع السلطة وسيلتها للوصول الى تسويات، بل تعوّل على التصويت الديمقراطي خلال الإنتخابات النيابيّة لحسم الخلافات لصالحها أو على حسابها.
اني اقترح هنا "نموذج مثالي" (Type ideal) لكل من الجماعات الضاغطة والمعارضة السياسيّة من خارج المؤسسات. ويمكن بالطبع للممارسة الواقعيّة ان تستعير خصائصها من النموذجين. فقد يكون "التسييس" خيارًا إستراتيجيًّا للجماعات الضاغطة يهدف على المدى البعيد الى تغيير في النظام الإقتصادي والسياسي. لكنّه حتى في هذه الحالة يجري وضع إستراتيجيا توفق بين أهميّة تحقيق مكاسب مرحليّة على المدى القصير، والعمل على إحداث تغييرات إقتصاديّة سياسيّة أكثر جذريّة على المدى البعيد. وهذا ما افتقدته تجربة حراكي النفايات والضرائب، والتي غاب عنها البعد الإستراتيجي والتخطيط المرحلي في آن واحد.
تصريحات المرشحين والمرشحات من "المجتمع المدني" عكست بعض الثقة بإمكانيّة التغيير من داخل المجلس النيابي بالمقارنة مع إمكانيّة التغيير من خلال الضغط في الشارع، رغم ان الانتقادات لقانون الانتخاب، كانت تشير بوضوح ان حجم تمثيلهم سيكون ضئيلاً. وهذا ما أكّدته نتائج الإنتخابات.
ما جاء في الوثيقة السياسيّة لـ "تحالف وطني" الذي شارك في الانتخابات، ذهب أبعد من ذلك من حيث الثقة بإمكانيّة التغيير من داخل المجلس النيابي([8]): "من خلال إيماننا بواجبنا وقدرتنا كمواطنات ومواطنين في وقف المسار الانحداري للدولة في لبنان وفي قيادة عملية التغيير وفي ابتكار أدوات فعّالة تحوّل النقمة الشعبيّة من حالة سلبيّة الى قوّة إيجابيّة، نرى أن الإنتخابات النيابيّة هي محطة للتغيير السلمي الديمقراطي إنطلاقًا من قناعتنا بقدرتنا على تمثيل حاجات الشعب اللبناني وقيمه ومبادئه والضغط لتطوير وتصحيح الاداء والتوجّه السياسي عامةً وبالأخص من خلال التشريع والمحاسبة في المجلس النيابي".
ملفت في هذا المقطع إعتبار "التحالف" النقمة الشعبية، أي عمليًّا التحركات الضاغطة السابقة، "حالة سلبيّة". وهو بحدّ ذاته يعكس نظرة دونيّة للجماعات الضاغطة بالمقارنة مع العمل السياسي المؤسساتي.
تحفل الدراسات حول الجماعات الضاغطة بالأمثلة الناجحة حول قدرة هذه الجماعات على تغيير التشريعات الإجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة. وتأثيرها لا يطال فقط مستوى القرار بل ايضًا مستوى صياغة القضايا التي تتحوّل شأنًا عامًّا يجري تداوله في إطار المجتمع المدني وفي إطار المؤسسات الدستورية.([9])
ويمكن في السنوات القليلة الأخيرة رصد عدّة نجاحات في الواقع اللبناني: تحركات هيئة التنسيق النقابيّة التي أدّت الى إقرار سلسلة الرتب والرواتب في ظروف صعبة ومعقّدة؛ حملات الجمعيات النسائيّة التي أدّت بدورها الى تعديلات في القوانين لصالح حقوق المرأة (المادة 522 من قانون العقوبات وغيرها) رغم كل العقبات المجتمعية والدينية؛ تحركات اهالي المفقودين التي بدأت تعطي ثمارها على مستوى اللجان المشتركة النيابيّة، وهنا ايضًا رغم كل العقبات السياسيّة المحليّة والخارجيّة؛ وغيرها من التحركات.
وربما كان من المهم في سياق النص الإشارة الى ضعف الحركة النسائية والتأثير النسائي على مستوى الانتخابات النيابيّة، بالمقارنة مع قوّة الضغط التي تمتعت بها بعض الجمعيات النسائيّة التي خاضت قيادتها هذه الانتخابات. والدعوة ملحّة هنا الى الباحثين لإيلاء الجماعات الضاغطة، كجماعات ضاغطة، اهتمامًا أكبر، ودراسة استراتيجيات تحركاتها والظروف والبنى التي تتحرّك في إطارها وشروط تحقيقها لمطالبها.
الغائب على ما يبدو من "وعي" مرشحيّ "المجتمع المدني" القادمين من "الحراك" الشعبي، هو الفرق والعلاقة بين الضغط في الشارع والعمل في إطار المجلس النيابي. والأهم من ذلك هو مدى تأثير الخلط بين الاثنين على فعّالية الاثنين معًا. فإذا سلّمنا بإمكانيّة التأثير من داخل البرلمان، وهذا ما هو مشكوك فيه على مستوى حجم التمثيل، يبقى السؤال حول مصير جماعات الضغط من جهة وكيفيّة التوفيق بين الاثنين من جهة ثانية. فنحن لسنا أمام "مجتمع مدني" منظّم في جماعات ضاغطة قويّة لا تتأثّر بانخراط قياداتها في الصراعات السياسيّة. بل نحن في مرحلة بناء جماعات ضاغطة تكافح من أجل بناء وحدتها وتجاوز الانقسامات السياسيّة باتجاه الضغط من أجل حقوق مواطنيّة. لذلك إن مخاطر الإنخراط في الصراعات السياسيّة على بناء الجماعات الضاغطة كبيرة، حتى لو تمّ إنخراط قيادة الجماعات الضاغطة من موقع مستقل. والسؤال الإستراتيجي في هذه المرحلة هو: ما هي الأولوية، بناء قوّة الجماعات الضاغطة أي عمليًّا بناء "المجتمع المدني" الإفتراضي، أو المراهنة على التأثير من داخل المؤسسات السياسيّة، في ظل التوقّعات شبه الأكيدة، ان هذه المراهنة من حيث الحجم التمثيلي غير واقعيّة على الأطلاق؟
لا يمكننا الإستناد الى تجربة أقليّة معارضة ومستقلّة داخل المجلس النيابي، لتبيان حجم التأثير الممكن. لكن يمكننا التأّمّل بتجربة حكوميّة جسّدها الوزير السابق زياد بارود القادم في حينه من "المجتمع المدني".
لقد كان أداؤه في وزارة الداخلية جيّد وقد انعكس ذلك على العمليّة الانتخابيّة التي أشرف عليها. لكن تأثيره بالقرارات العامة في الحكومة كان هامشيًّا رغم مساهماته الكثيرة.
الأهم من ذلك ان إنخراطه في التجربة الوزاريّة تقاطع مع مفارقة خطيرة. فقد عُيّن وزيرًا للداخليّة للإشراف على تطبيق "قانون الستين" الذي كان يعارضه، هو الذي كان عضوًا في لجنة فؤاد بطرس التي وضعت مشروعًا آخر أكثر ديمقراطيّة. أي ان نزاهة الوزير بارود، أدّت عمليًّا الى تجميل بشاعة القانون، وغيبت كلّيًّا معظم طروحاته الأساسيّة بشأن قانون الإنتخابات. وهذا ما يطرح على البحث إمكانيات وشروط تأثير أقليّة من "المجتمع المدني" في إطار أكثريّة ساحقة تمثّل الطبقة السياسيّة الحاكمة، كما يطرح إمكانيّة استخدام الطبقة السياسيّة لهذه الأقليّة من اجل تلميع صورتها، فضلاً عن مخاطر ضياع خصوصيات طروحات "المجتمع المدني".
الإغتراب السياسي وإشكاليّة بناء "الدولة المدنية"
الطرح السياسي الأبرز لدى مجموعات ما سمّي "بالمجتمع المدني"، هو بناء الدولة المدنية.
بحسب تعريف "تحالف وطني" تكون الدولة مدنية عندما "تكون العلاقات بين الدولة والافراد علاقة مباشرة تحدّدها القوانين العامة من دون وساطات (طائفية او غيرها) حيث يعيش فيها الجميع متساويين من دون إقصاء اي فرد او مجموعات بناء على معتقداتهم".([10])
كما تدّل عليه عموميّة التعريف أعلاه، يشوب مفهوم "الدولة المدنيّة" الكثير من الغموض. البعض يرى فيه تمويهًا لمفهوم العلمانيّة أو العلمنة، والبعض الآخر يختصره بإلغاء الطائفيّة السياسيّة.
ما يجمع التفسيرات المتعدّدة لمفهوم "الدولة المدنيّة" هو ان هذه الدولة هي البديل المطروح عن "النظام السياسي الطائفي" الذي يشكو منه المجتمع.
عندما طرحت الحركة الوطنيّة العلمنة في برنامجها المرحلي، طرحتها كحل لمشكلة إسمها "النظام السياسي الطائفي".
بدا توصيف المشكلة صحيحًا، لكنّه اتضح بالممارسة ان الحل المطروح غير واقعي، لا سيما ان القوى التي نادت بهذا الحل وسعت لتحقيقه ولو بالقوة، هي سوسيولوجيًّا ذات تركيبة طائفيّة. مما دفع المفكر السوري ياسين الحافظ الى تشبيه الأمر في حينه، كمن يريد ان يضع "غطاء" علمانيًّا على "طنجرة طائفيّة".
هذا الاستسهال لإلغاء النظام الطائفي، من خلال طرح إلغاء طائفيّة النظام السياسي، جرى تبريره "نظريًّا" من خلال تشبيه النظام الطائفي بالنظام الرأسمالي، عبر مقولة "الطائفة - الطبقة".
لقد جرى القفز "فكريًّا" وميكانيكيًّا من تحديد المشكلة الى اقتراح الحل دون الأخذ بعين الإعتبار التركيبة المجتعميّة والقوى المؤهّلة لإحداث التغيير باتجاه علماني. مع ان التجارب العالميّة في المجتمعات المتعدّدة الطوائف أو الاثنيات، دلّت على ان الإنتقال الى أنظمة علمانيّة تمّ عبر طرق معقّدة: إما القضاء على الاقليات وعلمنة المجتمع المتجانس، أو إقرار أنظمة فدراليّة وعلمنة المناطق المفدرلة. بعض هذه التعقيدات وغيرها، جرى أخذها بعين الاعتبار في مقاربة إصلاحيّة "لحركة التجدّد الديمقراطي" للوصول الى "الدولة المدنيّة". ([11])
الإشكاليّة اليوم لا تقتصر فقط على تصوّر الحل بل على توصيف المشكلة. فرغم كل التحولات التي حصلت منذ إندلاع الحرب سنة 1975 لا زال النظام القائم يوصف "بالنظام السياسي الطائفي". في حين انه على المستوى العملي والممارسة الفعليّة، أصبح "النظام" نظامًا فرعيًّا بحدود مفتوحة في إطار نظام إقليمي مركزه إيران مع تأثيرات إقليميّة ودوليّة أخرى، ويشمل العراق وسوريا ولبنان. والنظام هذا لم يعد بآليات عمله وديناميّته، نظامًا طائفيًّا بل مذهبيًّا، تتفاعل المذاهب فيه على وقع تفاعلها في الإطار الإقليمي الأوسع. كما ان هذا التفاعل لا تتحكّم فيه القواعد السياسيّة فحسب، بل موازين القوى المبنيّة على العنف.
بهذا المعنى، وبالقليل من المبالغة، لم يعد هذا "النظام السياسيّ الطائفيّ"، لا نظامًا ولا سياسيًّا ولا طائفيًّا. وأصبحت "المشكلة" التي يريد "المجتمع المدني" معالجتها، بحاجة الى إعادة توصيف، ومعها بالطبع "الحل" المقترح لمعالجتها. سيّما ان الحزب الأكثر نفوذًا في هذا النظام الفرعي أي لبنان، هو حزب الله، وهو حزب لا يخفي عقيدته الدينيّة ولا تمسّكه بسلاحه. مما يطرح تحدّيًا جذريًّا أمام الفكر المدني، إذ ان كلمة "مدني" وإن جرى الإختلاف حول تعريفها، تعني حكمًا "لا ديني ولا عسكري".
الإغتراب الإجتماعي الإقتصادي
المفارقة الكبرى، هي انه في حين جاءت مقاربة التغيير السياسي "جذريّة" من خلال المطالبة ببناء "الدولة المدنية" وإلغاء النظام الطائفي على غرار إلغاء النظام الرأسمالي، في نوع من المشابهة بين النظام الطائفي والنظام الرأسمالي، دون الأخذ بعين الاعتبار تعقيدات البيئة الإجتماعيّة، جاءت الطروحات الإقتصاديّة الإجتماعيّة لمرشحي "المجتمع المدني" أكثر تواضعًا وغلب عليها الطابع الإصلاحي الذي لا يمس بجوهر النظام الرأسمالي أو بالنظام الإقتصادي القائم.([12])
وإذا كنت لا أوافق البعض قوله أن طروحات مرشحي "المجتمع المدني" لا تهدد "أيًّا من المصالح القائمة وان جل ما يطرحونه... هو تأمين هذه المصالح وحمايتها من المخاطر المحدقة"([13])، إلاّ انني أشارك هذا البعض ملاحظته خلو هذه الطروحات من مقاربة واضحة لقضية العدالة الإجتماعيّة وتركز الثروة. لكن بالمقابل ما تطرحه هذه الانتقادات من مقاربات يتجاوز قدرات المجموعات المعنية ويذكّر بطوباوية الطرح السياسي ببناء "الدولة المدنية".
في الواقع لا نستطيع تقييم طرح إقتصاديّ إجتماعيّ من خلال معرفة الخصم فحسب، بل أساسًا من خلال التكوين الإجتماعي الإقتصادي للجماعة التي تتقدّم بهذا الطرح.
وإذا كان من الصعب توصيف الخصائص الإقتصاديّة الإجتماعيّة للجماعة التي عُرفت بالـ "المجتمع المدني" والتي خاضت الإنتخابات النيابيّة، وذلك لافتقادنا الى دراسة ميدانيّة حول هذا الموضوع، إلاّ اننا نوافق بعض الملاحظات التي ترصد افرادًا من الطبقة الوسطى العليا، يزاولون مهنًّا حرّة او يعلمون كخبراء ناشطين في هيئات المجتمع المدني المحليّة والدوليّة.
واني أعتقد انه بسبب هذا التكوين السوسيولوجي لجماعة "المجتمع المدني" جاءت مطالبها الإجتماعيّة الإقتصاديّة تجميعيّة وعامة وغير متصلة بمصالح محدّدة إلاّ في البعض منها.
ويمكن ان يفهم من هذه العمومية، ان المطالب موجّهة أيضًا الى رأي عام إنتخابي متعدّد الإنتماءات الطبقيّة والإجتماعيّة. مع الإشارة ان الفئات الشعبيّة المتضرّرة أكثر من غيرها من السياسات الإقتصاديّة الإجتماعيّة، غير ممثلة في أوساط قيادات "المجتمع المدني"، لا من خلال أفرادها ولا من خلال ممثليها النقابيين، إذا وجدوا.
وإذا نظرنا بدقّة الى المفاهيم الإقتصاديّة الإجتماعيّة "لتحالف وطني" الذي خاض الانتخابات، يلفت انتباهنا غياب تحليل الواقع الذي على أساسه صيغت المطالب الإقتصاديّة الإجتماعيّة، على عكس المطالب السياسيّة التي قٌدِّم لها بقراءة للمرتكزات التي يقوم عليها الواقع السياسي.
كما يلفت انتباهنا خلوّ هذه المطالب من "السياسات"، باستثناء المطالبة وفي البند الأول بضرورة "صوغ سياسات إقتصاديّة إجتماعيّة تتبنّى أهداف التنمية المستدامة 2030 لمكافحة الفقر والجوع والمحافظة على الطبيعة".
يمكن للمرء ان ينظر الى تبني "أهداف التنمية المستدامة" كمحاولة لتجاوز الخلافات حول رؤية إقتصاديّة إجتماعيّة، من خلال اللجوء الى مقاربة معتمدة عالميًّا. خطورة هذا الأمر ان هذه المقاربة العالميّة، يتبناها في الواقع معظم هيئات المجتمع المدني وليس فقط تلك التي خاضت الانتخابات النيابيّة. ولهذا السبب وجب التعاطي معها بجديّة عالية من حيث درجة مصداقيتها وصلاحيتها في معالجة الواقع اللبناني.
الصدمة الأولى تأتي من العنوان:" أجندة الأمم المتحدة 2030 للتنمية المستدامة". مصدر الصدمة ان ما هو مفترض ان ينقذك يتكلّم عن "تنمية" و "مستدامة" في حين ان بلدك في أزمة نمو حادة، يتخبّط بعدم استقرار سياسي امني، ويتّجه حثيثًا نحو الافلاس المالي.
انت في أزمة نمو، وعدم استقرار، وإفلاس محدق، والأجندة تريدك ان تضع نفسك في جو من "التنمية المستدامة" مسترخيًا ومنتظرًا الـ 2030 لمعالجة ازمتك. فضلاً عن كونك، أي "المجتمع المدني"، لا تملك من ادوات التأثير بالسياسات إلاّ الكلام أو بعض الضغط العشوائي.
انه خطر الاغتراب الكامل عن الواقع.
قد لا يشاركني البعض هذه النظرة ويؤكّد ان "الاجندة" تملك في أهدافها الـ 17 وفي غاياتها الـ 169 ما بمقدوره معالجة جميع الحالات في العالم بما فيها المستعصية كحالتنا نحن.
حسنًا، لكنك عندما تدخل في تفاصيل الأجندة كباحث أو كناشط مدني معني بالتغيير، تصاب بالإحباط وبالإحساس بالغربة.([14]) الأجندة تقول أنّ مقاربتها اجتماعية – اقتصادية – بيئية بالمقارنة مع المقاربة المحدودة التي اعتمدت في أهداف الألفية. تحاول أن تفهم الفرضيات والإطار النظري الذي يحكم تحليل الواقع، لماذا هذه الأهداف وليس غيرها، لماذا هذه الغايات وليس غيرها، وكيف جرى استخلاصها بعلاقتها بالأهداف، إلخ...
لا أجوبة في النص، بل الكثير من الحيثيات والمعلومات التي تعقّد لك الأمر أكثر ممّا توضّح لك الرؤية. تشعر بالغربة والضعف أمام كمّ هائل من الأهداف والغايات مطلوب منك أن تساهم في تحقيقها وتطبيقها. النص يمد لك يد العون فيقول أنّ لكل بلد أن يختار المقاربة التي تناسبه، لكنّك تبقى بالطبع مقيّدًا بالمفاهيم والقوالب التي حدّدوها لك.
يزداد قلقك عندما تتذكّر أن تقييم الأمم المتّحدة لمدى تحقيق أهداف الألفية كان سلبيًا بالنسبة للبلدان النامية بشكل عام، والبلدان الأفريقية بشكل خاص. وتتذكّر أيضًا أنّ تقييم المجتمع المدني العربي لتحقيق هذه الأهداف في البلدان العربية كان سلبيًا أيضًا.
فلنتعمّق أكثر بما تقوله "الأجندة"، ولنقرأ الهدف الأول الذي هو "القضاء على الفقر" وهو الهدف الأبرز كما تؤكّد عليه المقدّمة كما انه الهدف الذي ركزت عليه وثيقة "تحالف وطني". لكنّك وقبل أن تتطرّق الى عناصر المقاربة التي تطرحها الأجندة للقضاء على الفقر تسأل سؤالاً بديهيًا يفترض أن تساعد الإجابة عنه على فهمك لهذه المقاربة. السؤال هو كيف تنظر الأجندة لأسباب الفقر؟ هنا أيضًا لا جواب، لكنك تجد في أدبيات الأمم المتحدة المرافقة للأجندة هذا النص: "لماذا هناك الكثير من الفقر في العالم؟ الفقر له أبعاد كثيرة وإن كانت أسبابه تشمل البطالة والإقصاء الاجتماعي والضعف الشديد لفئات من السكان إزاء الكوارث والأمراض وغيرها من الظواهر التي تحول دون أن يكونوا منتجين". لا ذكر للنظام الاقتصادي، ولا للسياسات الاقتصادية – الاجتماعية، ولا لمشكلة اللامساواة وتوزيع الثروة، ، بل خلط بين الأسباب والنتائج.
تُفصل مشكلة الفقر عن ظروفها الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية، فتتحوّل الى ظاهرة إحصائية وليس إجتماعية: 20% أو 30% من الفقراء، لا علاقة فيما بينهم ولا علاقة بينهم وبين فئات المجتمع الأخرى. عملية الفصل بين الفقر ووعائه الاجتماعي – الاقتصادي – السياسي، جاءت مع تطوّر النيوليبرالية وانكفاء وضعف الحركة النقابية في ظل العولمة. وترافق التركيز على ظاهرة الفقر مع تراجع فكرة العدالة الاجتماعية وتقدّم مفهوم العمل اللائق فحسب، الذي تجعل منه الأجندة هدفًا أيضًا.
إذا سلّمنا بصدق النيات هنا أيضًا، كيف نقضي على هذا الفقر؟ الأجندة تعرض مقاربة من سبع نقاط:
- القضاء على الفقر المدقع بحلول 2030،
- تخفيض نسبة الفقراء الى النصف بحلول 2030،
- استحداث نظم حماية إجتماعية،
- ضمان تمتّع الرجال والنساء بنفس الحقوق في الحصول على الموارد الاقتصادية والخدمات الأساسية،
- بناء قدرة الفقراء والفئات الضعيفة على الصمود والحد من تعرّضها وتأثّرها بالظواهر المتطرّفة المتّصلة بالمناخ، وغيرها من الهزات والكوارث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بحلول 2030،
- كفالة حشد موارد كبيرة من مصادر متنوّعة بما في ذلك عن طريق التعاون الإنمائي المعزّز،
- وضع أطر سياساتية على كل من الصعيد الوطني والاقليمي والدولي.
بالإضافة الى عمومية المقاربة وغموضها، نلاحظ غياب أي إشارة الى أي دور للفقراء أنفسهم في القضاء على فقرهم، من خلال تنظيمهم وتمكينهم نضاليًّا وضمان حريّة منظّماتهم. فهؤلاء هم مجرّد أرقام إحصائية وجب خفضها.
تشبه مقاربة الأجندة للقضاء على الفقر، مقاربة الطبيب للقضاء على الفقر في الدم. وأنا لا أبالغ هنا بالتشبيه. ففي الحالتين:
- مقاربة فرديّة للمشكلة: مرضى من هنا وفقراء من هناك ولا رابط لا بين المرضى ولا بين الفقراء،
- مقاربة إحصائية: نتائج فحوصات المختبر هنا وإحصائيات الظروف المعيشية هناك،
- أسباب معقّدة للمشكلة، بعضها ظاهر وبعضها مخفي هنا وهناك،
- معالجة للأسباب السطحية وإهمال للأسباب العميقة، بالفيتامينات هنا، والغذاء والملبس وغيرها هناك،
- تقوية المناعة بالأكل والأدوية هنا وبزيادة القدرات على مواجهة الكوارث هناك،
- جرعات أمل هنا وهناك، من خلال الحقن بالأوكسيجين للمرضى والدعم والمساعدات للفقراء.
في المنطقة العربية وفي لبنان، ليست المسألة فقط في إيجاد المقاربة الأصح للقضاء على الفقر. نحن بحاجة لسياسات تنافس لا بل تتصارع مع سياسات تقضي على الفقر لكن بطريقتها:
- الطوائف والأحزاب المذهبية تستقطب الفقراء وتقضي على الفقر وأيضًا على الحرية والمساواة بشكل عام وبين الجنسين، وعلى أي مشروع تنموي فعلي،
- الأصولية والإرهاب يستقطبان الفقراء أيضًا ويقضيان على الفقر ... وعلى الأخضر واليابس!
أي عمليًا يجري القضاء على الفقر، وعلى ما تبقّى من أهدف الأجندة الدولية!
التحدّي كبير أمام "المجتمع المدني" في أن يخرج من غربة القوالب المسبقة في فهم مجتمعه، ويتلمّس طريقه بمعية الفقراء المنظّمين من أجل تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية في بلادهم والكفيلة بمعالجة ظاهرة الفقر من خلال التصدّي لجذورها.
الخروج من الغربة لا يفترض تحرّرًا فكريًّا فحسب، بل يجب ان يواكبه ثلاثة مبادرات على الأقل. الأولى، المبادرة الى مناقشة القضايا الإجتماعيّة الإقتصاديّة بمعزل عن "الاطار التنظيمي" الذي تقدّمه المنظمات الدوليّة المهتمة بالأجندة، أكان ذلك عبر الورش أو عبر التمويل المباشر. هذا لا يمنع على الأطلاق التنسيق مع المبادرات الدولية لكن بعد انتاج مقاربة وطنيّة خاصة، على أساس مفاهيم ومنهجيات أكثر ملاءمة لفهم الواقع المحلي وبحيث ينتج عن ذلك أهداف وغايات مرتبطة بتحليل هذا الواقع، وليس بمناقشة أي من أهداف وغايات "الأجندة" تصلح للواقع.
الثانية، المبادرة الى مساعدة "الفقراء" على تنظيم أنفسهم ورفع مطالبهم والمفاوضة عليها.
الثالثة، المبادرة الى اعتماد مقاربة حول العدالة الإجتماعيّة، تكون معالجة الفقر جزءًا منها، وتكون النقابات العماليّة طرفًا فيها. هذا يطرح بالطبع مشكلة فعاليّة النقابات العماليّة والعلاقة التاريخيّة شبه المعدومة بينها وبين هيئات "المجتمع المدني". كاتب هذا النص، المعروف عنه نقده الحاد للحركة النقابيّة اللبنانيّة، لا يرى استحالة لهذا التعاون على قضايا تهم الاجراء والفئات الشعبيّة الأخرى المعنيّة. والمسألة تحتاج الى بحث خاص لا يتسع له هذا النص.
التغيير السياسي شرط للتغيير الإجتماعي الإقتصادي ؟
تشترك قيادات الحراك المدني ومن ترشّح من بينها الى الانتخابات النيابيّة، مع الابحاث التي ذكرناها والتي تناولت الحراك وقياداته، بانها تفترض ولو دون اعلانه بهذه الحدّة، ان التغيير السياسي هو شرط للتغيير الإقتصادي الإجتماعي.
ولعل تصريح حنا غريب، أمين عام الحزب الشيوعي، كان الأوضح في هذا الشأن. ففي مناسبة عيد العمّال وعلى مسافة اسبوع من الانتخابات النيابيّة، صرّح في كلمته، "أن لا إصلاح إقتصادي بدون إصلاح سياسي". أهميّة تصريح غريب هي ان شباب حزبه أو مناصريه شكّلوا طرفًا مهمًّا في الحراك المدني أو في مجموعة "المجتمع المدني" التي ترشّحت الى الانتخابات.
وقع التصريح يكتسب دلالة إضافيّة في المناسبة التي أطلق فيها. فالعيد عيد العمّال وهو مناسبة إجتماعيّة إقتصاديّة بامتياز. لكن التصريح جاء قبيل الانتخابات النيابيّة وهي مناسبة سياسيّة بامتياز أيضًا. من هنا بدت المفاضلة بين الإجتماعي- الإقتصادي من جهة والسياسي من جهة أخرى ، لصالح السياسي، ليس فقط على مستوى الخطاب بل على مستوى الخيار النضالي، وبحيث بدا النجاح في الانتخابات النيابيّة "السياسيّة" شرطًا للتغيير الإقتصادي الإجتماعي الذي يرمز اليه عيد العمّال.
لا أحد ينكر العلاقة الوثيقة بين الإقتصادي والسياسي. وقد توسّع التحليل الماركسي في توصيف وتحليل علاقة الدولة بالبنية الطبقيّة للمجتمع وبالنظام الإقتصادي الرأسمالي. وفي الحالة اللبنانيّة وفّرت لنا دراسة حديثة([15]) معطيات وتحليلات حول العلاقة بين السلطة الإقتصاديّة والسلطة السياسية، والتداخل بين النظام الرأسمالي والنظام الطائفي.
ليست العلاقة بين الاثنين مصدر تساؤل في هذا النص، التساؤلات والملاحظات تطال معنى ان يكون التغيير السياسي شرطًا للتغيير الإقتصادي وإنعكاس ذلك على الجماعات الضاغطة ومن بينها النقابات في سعيها للتغيير الإجتماعي الإقتصادي. نختصر هذه التساؤلات أو الملاحظات بثمانية:
أولاً، ماذا نعني بالتغيير الإجتماعي الإقتصادي؟ التغيير البنيوي؟ وماذا نعني بذلك تحديدًا؟
ثانيًا، ماذا نعني بالتغيير السياسي، أو الإصلاح السياسي، وما هو مستوى التغيير أو الاصلاح الذي يفتح الطريق امام التغيير الإقتصادي الإجتماعي؟ وما هي الحجج التي نقدّمها لإثبات ذلك؟
ثالثًا، الا تفترض العلاقة بين الإقتصادي والسياسي، تأثيرًا متبادلاً بين الاثنين، بحيث يؤدّي التغيير الإقتصادي، عبر النضال الإجتماعي الإقتصادي، الى تغييرات سياسيّة؟ وأي نوع من التغييرات السياسيّة؟ وهل تخلو التجارب اللبنانية من أمثلة حول تغيير إجتماعي إقتصادي عبر نضال إجتماعي إقتصادي، ترافق مع تغيير سياسي أو لم يترافق معه؟
رابعًا، الا نعتبر التغيير في "السياسات" الإجتماعيّة الإقتصاديّة تغييرًا سياسيًّا؟ فلنأخذ نضال هيئة التنسيق النقابيّة مثالاً. في سياق النضال من اجل إقرار السلسلة، كانت مسألة الضرائب وإيرادات الدولة خارج إطار إهتمامات الرأي العام وكانت الحكومة تعتمد سياسة ضرائبيّة معيّنة. لكن بعدما طرحت هيئة التنسيق موقفها بشأن البدائل الضرائبيّة ردًّا على الحكومة، وقامت بزيارات ميدانيّة الى بعض مراكز الفساد والهدر للمالية العامة، أصبحت قضية الضرائب شأنًا عامًّا ونظم "المجتمع المدني" بعد ذلك حراكًا حول الموضوع. وكانت حصيلة النضال تغييرًا في السياسة الضرائبيّة ولو غير جذري، تُرجم بضرائب على المصارف والشركات الماليّة وكذلك على المعاملات العقاريّة والأملاك البحريّة.
خامسًا، هل الربط بين التغيير الإقتصادي والتغيير السياسي، يعني عمليًّا إستحالة تطوير النظام الرأسمالي من دون تغيير النظام السياسي وتحديدًا النظام الطائفي؟ الأمثلة عديدة حول تطوّر الحقوق العمّالية في الأنظمة الرأسماليّة عبر النضالات النقابيّة والعمّالية. وقد ترافق هذا التطوّر أو نتج عنه تغييرات سياسيّة باتجاه المزيد من الحريّة والديمقراطيّة. هل هذا الأمر غير ممكن في ظل النظام السياسي اللبناني؟ حتى في ايام كارل ماركس كان هناك جدال حول ما إذا كان الإصلاح ممكنًا في إطار النظام الرأسمالي. وكان ماركس يعتقد بإمكانيّة الإصلاح، ممّا دفعه الى الرد على الذين كانوا يقولون ان الماركسيّة لا تعترف بإمكانيّة الإصلاح "بانني أنا إذًا غير ماركسي". هل تتبنّى بعض قوى اليسار الناشطة في "الحراك المدني" موقفًا يعتبر أن التغيير الإقتصادي ليس مستحيلاً في النظام الطائفي فحسب بل في النظام الرأسمالي أيضًا؟
سادسًا، من القواعد المكتسبة عبر التجارب النضاليّة المتنوعة، هو تطوّر النضال من القضايا البسيطة الملموسة الى القضايا الأكثر تعقيدًا وتجريدًا. أي عمليًّا من القضايا المطلبيّة الى القضايا التي تطال البنى الإجتماعيّة أو الإقتصاديّة أو السياسيّة. فالوعي والقدرات التنظيميّة يتطوران عبر الممارسة وليس عبر التحليل فحسب. بمعنى آخر، وفيما يتعلّق بالتغيير الإقتصادي الإجتماعي والتغيير السياسي، لا يصلح القفز "فكريًّا" من المستوى الإجتماعي الإقتصادي الى المستوى السياسي، بحيث ينتقل النضال الى المستوى الثاني من دون مراكمة الوعي والتنظيم وربما المكاسب على المستوى الأول.
لطالما اعتقدت ان الخلاف بين الذين يريدون تحقيق مكاسب ملموسة ولو بسيطة عبر عمليّة إصلاحيّة تراكميّة من جهة، والذين ينشدون التغيير "الجذري" أو "البنيوي" في بدايات المسارات النضاليّة من جهة أخرى، ليس خلافًا في التحليل فحسب بل هو في خلفياته الطبقيّة، خلاف بين من يحتاجون الى تحسينات ملحّة في وضعهم المعيشي ومن لا يحتاجون الى هذه التحسينات بفعل موقعهم الطبقي "الميسور" حتى ولو كانوا يناضلون الى جانب "الطبقة العاملة" أو "الطبقات الشعبيّة".
سابعًا، في مسار التعبئة والضغط على أصحاب القرار، برز شعار "كلن يعني كلن" كمختصر لوحدة الطبقة السياسيّة ومسؤوليتها المشتركة عن الأوضاع التي آلت اليها البلاد.
لفهم هذا الشعار السياسي وجب الرجوع الى مسار تبلوره. وهنا أيضًا نعود الى تجربة هيئة التنسيق النقابيّة.([16])
قبل مرحلة نضال هيئة التنسيق كان الوعي السياسي العام يميّز بين أحزاب 8 و 14 آذار على مستوى السياسات الإقتصاديّة الإجتماعيّة. اصطدام هيئة التنسيق بمواقف حكومة ميقاتي الأقرب الى 8 آذار، وبعدها بمواقف حكومة سلام الجامعة للطرفين، ساهم في تحرير الوعي السياسي من وهم الثنائيّة وأظهر وحدة الطبقة السياسيّة حيال السياسات الإقتصاديّة الإجتماعيّة. مما سمح لاحقًا بتبلور شعار "كلن يعني كلن"، في أوساط "الحراك المدني" وتعميمه على القضايا الإجتماعيّة المطروحة من النفايات وغيرها.
لكن للشعار محاذيره. فإذا صحّ بالنسبة لمطالب معيّنة فانه لا يصحّ بالنسبة لمطالب أخرى حيث يستخدم من اجل تمويه المسؤولية القانونيّة والسياسيّة المحدّدة لبعض الأطراف دون غيرها، وذلك تفاديًا لمواجهتها. وقد يصبح حجّة لعدم المواجهة على الاطلاق طالما ان هذه الأخيرة لا تطال جميع الأطراف معًا. بمعنى آخر أما مواجهة "كلن يعني كلن" أو لا مواجهة.
في هذا المجال لا بدّ للتنبّه في عملية الضغط من اجل المطالب الى أمور ثلاثة على الأقل. الأول ان القوى السياسيّة ذات نفوذ متفاوت على الكثير من الأصعدة. الثاني ان المذاهب والطوائف التي تستمد منها القوى السياسيّة نفوذها، هي على درجة كبيرة من التفاوت من حيث تماسكها أو تفكّكها مما ينعكس حكمًا على القدرة على الضغط على ممثليها وكذلك على التعاطي مع رعاياها. الثالث انه جرى ومنذ الوصاية السورية "تخصيص" بعض القطاعات لهذه القوى أو تلك، من مثل الأمن والإقتصاد والقطاع العام والمهجرين وغيرها.([17])
ثامنًا، ما هو مصير التحركات الضاغطة من اجل المطالب الإقتصاديّة الإجتماعيّة إذا كان المشاركون فيها مقتنعين ان لا تغيير إجتماعي إقتصادي إلاّ بعد التغيير السياسي الذي ظهر وكأنه شبه مستحيل بعد الانتخابات النيابيّة؟ ألن ينعكس ذلك تخبّطًاً([18]) على مستوى استراتيجيا الضغط والمفاوضة كما شاهدنا في "الحراك المدني" من اجل النفايات والضرائب؟ ألن يتحوّل الحراك الى مجرّد نشاط تعبوي سرعان ما يتفكّك خاصةً إذا كان يحمل توجّهات في التغيير الإقتصادي والسياسي تتصف بالاغتراب عن الواقع اللبناني كما أشرنا في الأقسام السابقة من النص؟ الا يشكّل هذا الربط الخانق بين الإقتصادي والسياسي عامل احباط ولجم للقدرة على ابتكار اشكال نضاليّة لمواجهة الكم الهائل من المشكلات الإجتماعيّة الإقتصاديّة التي يعاني منها اللبنانيون؟
أزمة النفايات الى تفاقم.
السياسة الضرائبية هي في صلب شروط "سيدر1" ونقطة أكيدة على جدول أعمال أي محاولة لمعالجة عجز الموازنة.
والإفلاس على الأبواب.
ولا انتخابات نيابية قريبة ولا أمل بتغيير سياسي على المدى المنظور.
والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية تتراكم بشكل متسارع.
هل من حراك مدني جديد ممكن؟
وأي نوع من الحراك المدني؟
[1] لقد سبق للكاتب ان وضع دراسة في نهاية الحرب حول الاعمال الجماعية المقاومة للحرب التي نظمها "المجتمع المدني"، لكنه ركز في دراساته اللاحقة على الحركة النقابية اللبنانية والعربية. للاطلاع على دراسة الاعمال الجماعية المقاومة للحرب راجع
G.Slaiby, “Les actions collectives de resistance civile à la guerre » in Fadia Kiwan(ed), Le Liban Aujourd’hui, cermoc, editions CNRS, Paris, 1994
[2] غسان صليبي، ملاحظات حول المعركة الجارية: من أجل سياسة ضريبية عادلة، جريدة "الأخبار" 30/03/2017
2 كارول كرباج، السياسة بالصدفة : "الحراك" يواجه "شعوبه"، معهد السياسات في الجامعة الأميركية في بيروت ،2016
[4] M-N Abiyaghi, M Catusse, M Youness “From isquat al-nizam al-ta’ifi to the garbage crisis movement: political identities and antisectarian movements, in Lebanon: Facing the arab uprisings, constraints and adaptations, edited by Rosita Di Peri and Daniel Meier, Palgrave Macmillan, 2017.
[5] زينة الحلو، هل الإنتخابات اللبنانيّة للعام 2018 فرصة ظهور فاعلين سياسيين جدد؟
[6] زينة الحلو، مرجع مذكور
[7] غسان صليبي، في الاتحاد كوة، دار مختارات 1999.
[8] تحالف وطني، الرؤية السياسيّة، كانون الأول 2017.
[9]- Jean-Patrick Brady et Stéphane Paquin (sous la direction), Groupes d’intérêt et Mouvements sociaux, PUL, 2017 - Garrigues, Les groupes de pressions dans la vie politique contemporaine, PU Rennes, 2002.
-Karam Karam, Revendiquer,mobiliser,participer : Les associations civiles dans le Liban de L’apres guere,These de doctorat,2004
[10] تحالف وطني مرجع مذكور
[11] خارطة طريق الى الدولة المدنيّة، ادارة التعدد الطائفي داخل نظام ديمقراطي، 2017.
[12] وثيقة "تحالف وطني" مرجع مذكور
[13] نبيل عبدو، المجتمع المدني الانتخابي: بالاستشاريين جئناكم، جريدة "الأخبار"، 26 آذار 2018.
[14] غسان صليبي، اجندة الأمم المتحدة 2030 للتنمية المستدامة، مقاربة الفقر كفقر في الدم، بيروت المساء، العدد 10.
[15] فواز طرابلسي، الطبقات الإجتماعية والسلطة السياسيّة في لبنان، دار الساقي، 2016.
[16] غسان صليبي، ما بالكم لا تحتفلون باقرار السلسلة ، جريدة "النهار" تاريخ 24 تموز 2017.
[17] غسان صليبي، قبل فوات الاوان: بهذه الطريقة نلملم اشلاء السلسلة والضرائب والموازنة العامة والدستور، جريدة "النهار"، 28 ايلول 2017.
[18] - سبب التحبُط لا يعود فقط بالطبع للأسباب التي يتوقف عندها النص، بل أيضاً الى أسباب أخرى لفتت اليها دراسات أخرى من مثل، قضايا التنظيم والإنقسامات وردود الفعل العشوائية وتدخلات السلطة واختراقاتها، وغيرها من العوامل.