تحت رقم 6 لسنة 2016 صدر عن وزارة الداخلية ، مصلحة الأحوال المدنية كتابٌ دورى بشأن إيقاف اعتماد أختام النقابات المستقلة ممهوراً بتوقيع اللواء إيهاب عبد الرحمن مساعد الوزير لقطاع مصلحة الأحوال المدنية ، وموجهاً إلى السادة مديرو إدارات شرطة الأحوال المدنية [مديرو مراكز الإصدار والمعلومات والوثائق المميكنة- مديرو الإدارات ورؤساء الأقسام بديوان عام القطاع- مديرو مراكز إصدار البطاقات] بمراعاة تنفيذ ما يلى:
* إيقاف اعتماد أختام النقابات المستقلة بكافة مسمياتها لاعتماد المهن ببطاقة الرقم القومى مع إيقاف العمل بكافة الكتب الدورية السابق إصدارها فى هذا الشأن.
* الالتزام بآليات إثبات المهن الخاضعة لقياس مستوى المهارة بموجب تراخيص مزاولة الحرفة طبقاً للشهادات الصادرة من وزارة القوى العاملة
* بالنسبة للمهن التى لم يصدر بها قرارات وزارية وغير خاضعة لقياس مستوى المهارة يتم تقديم خطاب صادر من مكتب العمل التابع له إقامة العامل، واعتماد التأمينات الاجتماعية.
* إثبات مهنة عامل أو عامل عادى بموجب اعتماد التأمينات الاجتماعية أو النقابات العامة المتخصصة وهى نقابتى (النقابة العامة لعمال البناء والأخشاب، النقابة العامة للعاملين بالصناعات الهندسية والمعدنية والكهربائية).
حيث يكشف هذا الكتاب- للأسف- عن اتجاه الأجهزة الحكومية –الذى جعل يتصاعد يوماً بعد يوم- لقطع الطريق على تكوين العمال لنقاباتهم المستقلة ، والإجهاز على مساحات الحرية النقابية التى تطلع العمال المصريون إلى التمتع بها ،واستطاعوا قطف بعض ثمراتها فى أعقاب ثورة يناير 2011.. وكانوا قد دفعوا ثمنها مقدماً ومؤخراً.. فصل البعض من وظيفته، وحكم على البعض بالسجن.. عانت أسر من فقدان مورد الرزق، وتعرض أطفال لمخاطر العوز والتشرد.
إن أخطر ما فى هذا الكتاب لا يكمن فيما يقرره من إجراءات- على أهميتها-، وإنما فيما يتضمنه من توجهات، وما يبتغيه من هدف "غلق الباب أمام النقابات والكيانات غير الشرعية التى تحمل مسميات مشابهة".. لذلك فإن تناول ومناقشة هذا الكتاب لا تتوقف عند إيقاف اعتماد أختام النقابات المستقلة لاعتماد المهن.. حيث يهمنا إبراز ما يلى من الحقائق والنقاط:
إن غرض غلق الباب أمام النقابات "المستقلة" يأتى- كما ينص الكتاب الدورى لوزارة الداخلية- ويا للغرابة- "فى إطار الضوابط المقررة بمقتضى الدستور والقانون التى حظرت إنشاء نقابات حرة مستقلة".. أى دستور؟! .. دستور 2014 الذى ينص فى مادته السادسة والسبعين على أن "إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطى حق يكفله القانون وتكون لها الشخصية الاعتبارية، وتمارس نشاطها بحرية، وتسهم فى رفع مستوى الكفاءة بين أعضائها والدفاع عن حقوقهم، وحماية مصالحهم. وتكفل الدولة استقلال النقابات والاتحادات، ولا يجوز حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائى، ولا يجوز إنشاء أىٍ منها بالهيئات النظامية"، كما ينص فى المادة 93 منه على التزام الدولة "بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التى تصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً للأوضاع المقررة".
ووفقاً لذلك فإن الضوابط المقررة بمقتضى الدستور إذن هى :
* أن إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطى حق يكفله القانون.
* أن هذه النقابات والاتحادات تكون لها شخصيتها الاعتبارية
* أن هذه النقابات تمارس نشاطها بحرية (أى لا تتدخل الجهات الإدارية والحكومية فى أعمالها)
* تلتزم الدولة بكفالة استقلال النقابات والاتحادات.
* لا يجوز حل مجالس إدارات النقابات إلا بحكم قضائى
* لا يجوز إنشاء النقابات بالجيش أو الشرطة.
* الالتزام باتفاقيتي العمل رقم 87 و98 الموقع عليهما من الحكومة المصرية والعهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المكتسبون قوة القانون.
الدستور يلزم الدولة بكفالة استقلال النقابات، والكتاب الدورى لوزارة الداخلية يعد النقابات المستقلة كيانات غير شرعية لأنها حرة ومستقلة!!
الدستور الذى صوتنا عليه بالموافقة، و ارتضيناه عقداً اجتماعياً لنا ليس حبراً على ورق، وليس كلمة تضاف على المحررات الحكومية والكتب الدورية ذراً للرماد فى العيون.. الدستور - الذى يقسم الوزراء والمسئولون والبرلمانيون على احترامه، والذى تعد مناهضته جريمة تستوجب العقاب- هو واجب النفاذ فورى الأثر منذ التصويت بالموافقة عليه.
إن القانون رقم 35 لسنة 1976 قانون غير دستورى لأنه لا يكفل استقلال النقابات، ويفرض على العمال مؤسسة نقابية واحدة تعدها الدولة- ووزارة الداخلية على الأخص- إحدى أجهزتها.. ولأنه غير دستورى ولأن مصر تتعهد أمام منظمة العمل الدولية منذ عام 2008 وحتى الآن بإلغائه .. فإن قانوناً جديداً للنقابات ينبغى إصداره لكى تتشكل جميع النقابات وفقاً له.
قانون يقر بالحريات النقابية، ويكفل استقلال النقابات، وممارستها أنشطتها بحرية
فإذا كنتم تتمسكون بالقانون الذى انتهى عمره الافتراضى منذ سنوات طوال.. انظروا إلى حيثيات المحكمة الدستورية العليا فى حكمها الصادر بإلغاء المادة 38 من هذه القانون.." وهذه الحرية النقابية - التى تتعين كفالتها ، وعدم الانتقاص منها – إنما "تتمخض عن قاعدة أولية فى التنظيم النقابى تمنحها بعض الدول قيمة دستورية فى ذاتها ، لتكفل بمقتضاها حق كل عامل فى الانضمام إلى المنظمة النقابية التى يطمئن إليها، وفى انتقاء واحدة أو أكثر من بينها- عند تعددها- ليكون عضواً فيها، وفى أن ينعزل عنها جميعاً، فلا يلج أبوابها، وكذلك فى أن يعدل عن البقاء فيها منهياً عضويته بها" [القضية رقم 6 لسنة 15ق]
يستند الكتاب الدورى إلى ما ورد بكتاب وزارة القوى العاملة- الموجه إلى وزارة الداخلية كما يبدو- فيما تضمنه من أن تكوين النقابات المستقلة يستند إلى اتفاقية العمل رقم 87 –التى يفترض أن لها قوة القانون وفقاً للدستور- وأن الجهات الإدارية لا دخل لها فى تشكيلها أو "المهن الخاصة بها".. جاعلاً من ذلك سبباً ومعتبره مبرراً لعدم اعتماد أختام هذه النقابات أو لاعتبارها كيانات غير شرعية .. إن وزارة الداخلية لا تعلم فيما يبدو أن وزارة القوى العاملة قد اعتادت أن تنفى عن نفسها دوماً شبهة التدخل فى شئون النقابات لأن الجهات الإدارية لا ينبغى لها التدخل.. لأن الدولة يفترض أن تلتزم بكفالة استقلال النقابات عنها.. لأن الاستقلال صفة لصيقة بالنقابات.. بدونها لا تصبح نقابات.. ملحقات بأجهزة الدولة، مؤسسة شبيهة باتحاد نقابات عمال مصر الذى اعتادت الحكومات والمسئولون فى مصر على وجوده عقود طوال حتى بات المرادف الوحيد لديهم لكلمة نقابات عمالية.
غير أن ما لم يتضمنه كتاب وزارة القوى العاملة هو أن العمال المصريون قد استطاعوا- فى أعقاب ثورة 25 يناير- انتزاع بعض من حرياتهم النقابية التى صدر بها الإعلان الوزارى فى الثانى عشر من مارس 2011 .. والذى تقبل الوزارة إيداع أوراق النقابات وفقاً له.. غير أن ممارسة الحريات النقابية ظلت مع الأسف تواجه - على الأرض- صعوبات بالغة، وتصارع مفاهيم مغلوطة .. النقابات تودع أوراقها لكنها
تمارس أنشطتها بشق الأنفس .. تُشل أياديها أحياناٍ، فيما يُسمح لها أحياناً بالحركة المحدودة.. تواجه حملات التشويه ومحاولات الحصار التى لا تتوقف.. وأخيراً تتوالى الكتب الدورية التى تنزع عنها شرعيتها.
استند الكتاب الدورى أيضاً وهذا هو الأخطر إلى كتاب الإدارة العامة للمكتب الفنى للسيد الوزير رقم 3721 17/2/2016 المتضمن ما انتهى إليه رأى قطاع الأمن الوطنى من عدم اعتماد أختام النقابات المستقلة للحيلولة دون استخراج محررات رسمية.. حيث يصعب الاعتقاد أن رأى قطاع الأمن الوطنى يتعلق "بتفعيل الآليات التى تسهم فى تطوير القطاعات الخدمية" أو بتحقيق "الانضباط فى شأن إثبات المهن".. وإنما يتعلق الأمر هنا بتحقيق غرض "غلق الباب أمام النقابات والكيانات الغير شرعية التى تحمل مسميات مشابهة".. الأخطر هنا هو العودة مجدداً إلى التعامل مع النقابات من منظور أمنى.. منظور لعلنا جميعاً قد خبرناه طويلاً .. يرى فى كل مبادرة أو منظمة مستقلة خطراً محتملاً ينبغى التخلص منه أو إخضاعه للأجهزة الحكومية أو الأمنية. منظور أمنى لا يعترف بالمجتمـع المدنى ولا منظماته أو مفرداته.. لا شيء خارج الحكومة، ولا شيء لا يخضع للسيطرة والهيمنة.
النقابات ليست خطراً على المجتمع بل هى واحدة من أهم روافع استقراره.. وهى لا يمكن أن تكون رافعة للاستقرار إلا إذا كانت مستقلة.. إذا استطاعت القيام بدورها الأصلى والأصيل فى الدفاع عن حقوق أعضائها من العمال والتعبير عن مصالحهم والتفاوض باسمهم.. لكى يكون الحوار الاجتماعى والمفاوضة المجتمعية ممكنين، لكى يمكن تحقيق التوازن بين مصالح الأطراف الاجتماعية المختلفة.. لكيلا يحتقن المجتمع إلى حد المرض، ويختل توازنه إلى حد الخطر.
النقابات التى تفقد استقلالها فتصبح ملحقات للأجهزة الحكومية والأمنية.. النقابات التى يظنها العمال أنفسهم مؤسسة من المؤسسات الحكومية لا يمكنها أن تؤدى دور النقابات.. لا تتمتع بثقة العمال، ولا تستطيع الدفاع عن مصالحهم، أو التفاوض باسمهم.. فتكون النتيجة التى عرفناها جميعاً ورأيناها رأى العين.. فقدان الثقة وانسداد قنوات الحوار والتفاوض.
لقد طالبت دار الخدمات النقابية والعمالية منذ ثلاثة أعوام بتنظيم وزارة القوى العاملة حوارٍ مجتمعى لتطوير آليات منتظمة ومنضبطة لعمليات إثبات المهن وإصدار تراخيص مزاولة المهنة تضمن كفاءتها وشفافيتها وتحقق مصلحة العمال أولاً- على الأخص- وأن عمليات إصدار التراخيص وإثبات المهن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضايا العمالة غير المنتظمة وتسجيلها وحمايتها والحفاظ على حقوقها..
غير أن الأمر الذى لا يمكن قبوله هو العودة مجدداً إلى قصر إثبات مهنة عامل أو عامل عادى على النقابتين التابعتين للاتحاد العام لنقابات عمال مصر [النقابة العامة للعاملين بالبناء والأخشاب، والنقابة العامة للعاملين بالصناعات الهندسية والمعدنية والكهربائية] دون غيرها من النقابات المستقلة عن هذا الاتحاد.
إن هذا القصر إنما يعنى بالضبط إكراه العمال على الانضمام لنقابات دون غيرها .. حيث يضطر العامل إلى الالتحاق الاسمي أو الورقى بهذه النقابات وسداد اشتراكاتها جبراً لكى يتمكن من إثبات مهنته.. وهذا الإكراه بالضبط هو ما يخالف نص المادة 76 من الدستور مخالفة صريحة.. هذا الإكراه بالضبط هو ما تحظره اتفاقية العمل الدولية رقم 87 .
هذا بالضبط هو التاريخ المرير الذى لن يرضى العمال المصريون بعودته حاضراً.. نقابات تزهو بعضوية ورقية من مئات الآلاف وعمال محرومون فعلياً من حقهم فى تنظيم أنفسهم فى نقابات حقيقية "حرة ومستقلة" وفاعلة.. تسجيل ورقى وإثبات مهن ورقى وعضوية ورقية.. وعمال محرومون من التدريب الفعلى والتأهيل لفرص عمل حقيقية، وحماية قانونية لحقوقهم من تأمين وضمان اجتماعى وتأمين صحى.. عمال محرومون من النقابات.
لكن التاريخ لا يعيد نفسه.
دار الخدمات النقابية والعمالية
الثلاثاء 1 مارس 2016