تعد الاحتجاجات العمالية المحرك الأساسي لعمليات التغيير الاجتماعي والاقتصادي، التي تسير وفق أسس وقواعد خاصة بالمجتمعات، وطبيعة البنى المكونة لها. وعادة ما تتحدد هذه البنى بحسب سمات العلاقات بين مكوّنات المجتمع، ولعل المكونين الاجتماعيين الأساسيين هما: العاملون بمختلف أصناف مهنهم من جهة، وأصحاب الأعمال والإدارات العليا في القطاعين العام والخاص من جهة أخرى.
تعكس غالبية الاحتجاجات العمالية حالةً من عدم استقرار علاقات العمل خلافاً لتنظيرات البعض، الذين يعتبرونها “موضة”، ويجدر بصناع السياسات العامة الأذكياء التعامل مع الاحتجاج بوصفه مؤشراً على وجود اختلالات اجتماعية تعبّر عن رفض قوى بعينها لإحدى صيغ علاقات العمل غير العادلة.
تؤكد التجربة الإنسانية المتاح قراءتها للجميع أن التغيرات السياسية الكبرى، التي حدثت عبر التاريخ القديم والحديث والمعاصر، بدأت على شكل احتجاجات اجتماعية تعامى عنها، بقصد أو من غير قصد، من يمسكون بصناعة السياسة والقرار، ما أدى إلى تفاقم الاختلالات في المجتمع، وعمّقت التفاوت بين مكوناته، ثم جاء التغيير حتماً.
المنطقة العربية، ومنها الأردن، ليست خارج منطق التاريخ وقوانين التغيير الاجتماعي والسياسي. فالاحتجاجات العمالية تقف عند مستويات مرتفعة، وقد سجل الأردن خلال السنوات الخمس الماضية تنامياً كبيراً، إذ تجاوز عددها ثلاثة آلاف احتجاج، ولدى توقفنا للحظات أمام التقارير التحليلية، فإننا نلحظ أن الاحتجاجات العمالية لم تقتصر على قطاع اقتصادي محدد، فقد اتسعت حتى شملت مختلف قطاعات العمل، من العمل المؤقت (المياومة) إلى العمل الدائم، ومن القطاع الخاص إلى القطاع العام.
هنالك حقائق جديدة ينبغي الالتفات إليها، وتتمثل بوجود قيادات شابة جديدة في مواقع العمل تجاوزت الأطر النقابية التقليدية المتمثلة في النقابات العمالية المعترف بها رسمياً، وتجاوزت كذلك تأثيرات الأحزاب السياسية سواء التقليدية منها أم الحديثة. وغالبية الاحتجاجات نفذها نشطاء ومجموعات عمالية اكتوت مباشرة بنار التفاوت والظلم الاجتماعيين، ومن هنا تأتي أهمية قراءة هذه الحراكات والتعامل معها بإيجابية، وليس بإنكارها ومحاربتها من قِبل الحكومة وأصحاب العمل والمنظمات النقابية التقليدية.
وبالرغم من تراجع أعداد الاحتجاجات العمالية، التي شهدها الأردن خلال عام 2014 مقارنة مع الأعوام الثلاثة التي سبقته، بسبب بعض الظروف الاقليمية المحيطة، والضغوط الرسمية التي تتعرض لها الحركة العمالية الأردنية، إلا أن مجموعها يعتبر مرتفعاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أعداد القوى العاملة، كما أن أسبابها ما زالت واضحة للعيان، وتتنامى يوماً بعد يوم.
مستويات الأجور منخفضة جداً، وكذلك الحد الأدنى لها، وفقاً للأرقام الرسمية، التي كان آخرها منذ أيام ويشير إلى أن غالبية الأردنيين يحصلون على أجور شهرية تقل عن 500 ديناراً شهرياً، ومستويات الحماية الاجتماعية متواضعة، إذ أن هنالك مئات آلاف العاملين لا يتمتعون بأي شكل من أشكال الضمان الاجتماعي، ومعدلات البطالة بين الشباب من أعلى النسب في العالم حيث تتجاوز 30 %.
يضاف إلى ذلك أن الغالبية الساحقة من العاملين في الأردن محرومة من حق تأسيس نقابات والانضمام إليها حتى اللحظة، وهم بذلك محرومون من حق ممارسة المفاوضة الجماعية مع أصحاب العمل والإدارات العليا في القطاع العام.
لقد بات مطلوباً -بشكل ملحّ وجذري- إعادة النظر بمجمل التشريعات والسياسات الناظمة لعلاقات العمل، لنعيد التوازن بين مختلف أطراف الإنتاج، والعمل على الاستجابة لحاجات المجتمع الأردني المتجددة، والتخفيف من حدة التفاوت المتصاعدة بين مكوناته بشكل لافت، وعدم إنكار حقائق ملموسة. وبخلاف ذلك، فإن راسمي السياسات العامة ومتخذي القرار يدفعون المجتمع للانفجار، وعندها سيدفع الجميع ثمن عدم تلمس وفهم ما يجري في عمق مجتمعنا.
أحمد محمد عوض: باحث ومدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية.