التقطت «المفكرة القانونية» في ندوتها مساء الخميس الماضي ثلاثة ملفات تتصدر مساحة النقاش العام في لبنان، وأعادت ربطها بما يبرز انتهاك النظام السياسي في لبنان جملة من الحقوق الاساسية للمواطنين لصون مصالح الطوائف.
وعليه، وبعد نحو ربع قرن على اتفاق الطائف الذي وضع خريطة طريق وخطاً بيناً لإلغاء الطائفية السياسية، ينقلب أمراء الحرب على الدستور المعدّل وفقاً للطائف الذي أعاد تنصيبهم زعماء على البلاد والمواطنين، كاشفين عن أزمة داخلية تنخر عظام النظام وقلبه.
فمن مشروع قانون اللقاء الأرثوذكسي المطروح للانتخابات المقبلة، إلى توصية اللجنة الوزارية في خصوص منح المرأة اللبنانية حقها بإعطاء جنسيتها لأسرتها، وانتهاء بالزواج المدني الذي عقده نضال درويش وخلود سكرية وطرحاه على الرأي العام، فكك المدير التنفيذي لـ«المفكرة» المحامي نزار صاغية القضايا الثلاث، ليشير إلى أن حلقة النقاش تهدف إلى «ربطها بعلاقتها بالنظام وطريقة المعالجة وأبعاد الخطاب العام، لتكوين صورة أوضح عن النظام الذي نعيش فيه».
وإذا كان قانون اللقاء الأرثوذكسي، وفق صاغية، قد «بدأ مزحة وتحول إلى قضية جدية بهدف تأمين وزن سياسي متساوٍ للطوائف»، فإن حق المرأة في المساواة مع الرجل في موضوع الجنسية، وصل إلى نضج معين في الخطاب العام (طرحه على جدول أعمال مجلس الوزراء)، ثم تحول مزحة عبر الخطابية التي تبنتها اللجنة الوزارية المكلفة دراسته».
أما زواج نضال وخلود مدنياً، الذي احتل حيزاً واسعاً لدى الرأي العام والإعلام، فقد توقف صاغية عند رمزية دور الكاتب بالعدل الذي صدق العقد ووثقه (جوزف بشارة) «فهو ليس قاضياً ولا محامياً، لكن ككاتب عدل استعمل صلاحياته القانونية ليطور القانون الذي يحرم الناس من حقوق أساسية، وتمكن من الدفع بالزواج المدني في اتجاه معاكس».
وانطلق الدكتور كرم كرم من الظروف التي أوصلت لبنان إلى طرح قانون اللقاء الأرثوذكسي، ليقول ان ذلك ينطلق من «كون الهيئة الناخبة هي مذهبية محضة، على عكس القوانين التي كانت تخصص مقاعد مذهبية لناخبين مختلطين».
أما «الأرثوذكسي»، وفق كرم، فيكرس مقاعد مذهبية لهيئة ناخبة مذهبية، وهو ما «يعكس تأزم النظام الطائفي من الداخل وأزمة آلياته ومؤسساته، بينما تهدده قضيتا حق جنسية المرأة والزواج المدني من الخارج». ولفت كرم الى إنتاج النظام حلولاً وطروحات لأزماته الداخلية وتحدياته الخارجية.
وتوقف عند ثلاثة مواقع أساسية سمحت بطرح قانون اللقاء الأرثوذكسي، وهي النظام الانتخابي الهش، اتفاق الطائف، والقوى ومشاريعها السياسية.
فقانون الانتخابات طالما كان أكثرياً يؤمن التمثيل المذهبي قبل الطائف وبعده، من دون أن يترك هوامش لتكوين قوى عابرة للطوائف تكون صمام أمان أي عودة إلى الوراء، ثم أضيف إلى هذا الواقع الخلل الديموغرافي وتغطيته بالمناصفة وبمنح قوى امتياز تقرير ممثلي القوى الأخرى. ومن الخلل الديموغرافي انتقل كرم إلى التقسيمات العشوائية والمال الانتخابي واللعب بحجم الدوائر وتداخل النفوذ، ليقول إن النظام يعيد انتاج نفسه منتهكاً الطائف في محطات عديدة ومخالفاً الدستور، ليترك جملة من القضايا الأساسية تنهار أو على شفير الانهيار، ومنها السلطة القضائية وحقوق العمال والنقابات والتعليم الرسمي.. وغيرها من القضايا التي تثبت الإقصاء الممنهج لأي التزام معنوي وأخلاقي باتفاق الطائف والدستور. وانطلق كرم من التسويات الخارجية التي غالباً ما تنتهي بها الأمور، ليؤكد «أننا لا نتوقع أي شيء من النخبة الحاكمة اليوم. لذا، صار من السهل طرح القانون الأرثوذكسي المبني على الآلة الحاسبة لكل طائفة ومصالحها وحصتها من السلطة. فالحكومة الحالية نجحت في إعطاء الطوائف الفيتو لتأخذ صلاحية التشريع».
الزواج المدني
تمهيداً للحديث عن عقد الزواج المدني، استعاد صاغية حكم القاضي جون القزي، الذي حكم بمنح جنسية سميرة سويدان اللبنانية الجنسية لأبنائها من زوجها المصري المتوفي، ليقول إن «حكم القزي أعطى دفعاً غير مسبوق لموضوع الجنسية، ومثله فعل الموقف الوطني الذي أطلقه الكاتب بالعدل جوزف بشارة»، ليسأل عن كيفية حصول الأمر ودوره.
بداية، طمأن بشارة الحاضرين إلى أن ملف خلود ونضال «رابح مئة في المئة»، مؤكداً وجود أبواب قانونية مخفية «لن يتم الكشف عنها الآن، لكن الحل موجود في لبنان، وقانوني مئة في المئة». وأكد أن هناك قراءات عديدة لبعض القوانين في لبنان، وإهمالا لنصوص أخرى. ما يكرس أفكاراً وأحكاماً لا تكون دقيقة أحياناً، كأن إهمال بعض القوانين الموجودة يجعل الناس تنساها».
وأكد بشارة أن «الدولة اللبنانية ملزمة بوضع التشريعات التي تكرس الحقوق، وإزالة العوائق من أمام تطبيقها».
وبعدما أشار إلى أن منع وزير الداخلية السابق زياد بارود قيام الموظفين بمنع المواطنين من شطب مذهبهم (وهو حق كان موجوداً ولا يطبق) فتح ثغرة قانونية لعقد زواج مدني لمن لا ينتمون إلى طائفة ما، بناء على القرار 60 ل.ر الصادر في 1936.
وأكد، أنه ككاتب بالعدل، لديه الحق في «تصديق كل إسناد ليس من صلاحية أي موظف آخر، أو مخالف للقانون، أو للنظام العام، وكلها أمور متوافرة في عقد نضال وخلود. وهي تحت سقف الدستور والقانون».
ووضع بشارة ما يحدث تحت سقف ولادة المواطن اللبناني الفرد الحر في لحظة تكسر حاجز الخوف، داعياً إلى الإبقاء على العقلانية التامة في التعاطي مع الملف «الذي سنكسبه في القانون، وفي لبنان جديد».
جنسية المرأة اللبنانية
وبعدما توقف صاغية عند إقصاء القاضي القزي عن السلطة التقريرية على خلفية حكمه بمنح جنسية امرأة لبنانية لأبنائها من زوجها المتوفى، شبه النقاش الذي اندلع يومها بما يحصل اليوم بالنسبة إلى الزواج المدني. واعتبر صاغية أنه من الطبيعي أن «يكون المخمر الذي سينضج فيه الالتزام بالحقوق الأساسية هو القانون ومن يعمل فيه ليخرج بعدها إلى المجتمع». وعرض لكيفية مواجهة النظام لمبادرات كهذه عبر دفع مرجع قضائي آخر لدحضها والقول إنها خاطئة، مشيراً إلى أن «الشخص نفسه الذي نقض حكم القزي قام بعدما تبوأ رئاسة هيئة الاستشارات والقضايا في وزارة العدل بإعطاء رأي سلبي اليوم بعقد الزواج المدني، بما يثبت أن ثمة أشخاصاً مقربين من السلطة يتولون مسؤولية إعادة تأكيد فكرة أن القانون سلاح بيدها وليس بأيدي المواطنين في مواجهتها».
وبالعودة إلى ما حصل في موضوع الجنسية في اللجنة الوزارية التي أوصت بعدم منح هذا الحق للمرأة اللبنانية بذريعة تناقضه مع المصلحة العليا للبلاد وبالتوازن الديموغرافي والتوطين، أشار صاغية إلى «حصول ما يشبه الاتفاق الضمني بين منظمات المجتمع المدني على السير بالقضية بعيداً من القضاء وسلوك درب الغرف المغلقة في التفاوض مع السلطة السياسية». وعليه أدرج الموضوع على طاولة مجلس الوزراء كهدية لأمهات لبنان في عيد الأم. لكن المفاجئ، وفق صاغية، هو أن «اللجنة الوزارية التي كلفت دراسة الملف استخدمت التقنية القانونية في توصياتها للخروج من الحرج الذي تستشعره إزاء التذرع بحق النساء بالمساواة». وبذلك، أوجدت اللجنة الوزارية تقنية سحرية تعتمد على جمع فزاعتي التوطين والتوازن الديموغرافي مع مفهوم المصلحة العليا. ووفق صاغية، «يشهد للتوصية الوزارية أنها قد تكون من أفضل الأعمال الخطابية التي رشحت عن الحكومة الحالية».
وكشف صاغية أن اللجنة الوزارية التي استندت إلى حكم للمجلس الدستوري في 2001 بخصوص منع الفلسطينيين من التملك، والذي اعتبر أنه يجوز تجاوز مبدأ المساواة المكرس دستورياً عندما تقتضي المصلحة العليا ذلك، قد تعمدت تشويه المرجع واقتطعت منه عبارة اساسية مفادها أن يكون «التمييز الحاصل على اساس المصلحة العليا له ما يبرره بهدف القانون». وسأل صاغية عن كيفية تبرير التمييز ضد المرأة في مشروع قانون كان يفترض أنه يوضع لاعطاء حق المساواة للمرأة في قضايا الجنسية. فـ«إما أن نعتبر أن أولاد المرأة والرجل اللبنانيين من رجل وامرأة أجنبية ناقصي الأهلية الوطنية ونحرمهما معاً من حق منح جنسيتهما لذريتهما، وإما أن نسمح في الحالتين». وأشار إلى أن التوصـــيات لم تقتطع وحسب من حيثية المرجع الدســـتوري، إنما أهملت المرجع الفرنســــي الذي كان ذلك القرار قد استند إلــــيه والذي يؤكد عدم جواز التمــــييز على أساس النــــوع الاجتمـاعي أو العرق أو الدين في حال من الأحوال.
واعتبر صاغية أن استبعاد أي تمييز في هذا المجال طبيعي، إذ لا يُعقل أن نتصور وجود مصلحة عليا تبرر التمييز على أحد هذه الأسس. فأن تكون هناك مصلحة عليا تميز ضد عرق معين إنما يعني أن ثمة سيادة لعرق على آخر، وأن يكون هناك مصلحة عليا تميز ضد المرأة يعني أن هناك سيادة للذكور على النساء. وكأنما اللجنة الوزارية تقود من خلال توصياتها انقلاباً للذكور ضد النساء في المجتمع، ليقولوا لهن: «نحن وحدنا نمثل المصلحة العليا». وسأل صاغية: «ما هي المصلحة العليا؟ فالتوطين يطال فئة محددة من المتزوجات من فلسطينيين»، أما أن يقال ان الحفاظ على التوازن الديموغرافي مصلحة عليا، فهذا بدعة لا تصمد أمام أي جدل جدي. فربما يكون التوازن السياسي مصلحة عليا، لكن ما معنى القول ان التوازن الديموغرافي مصلحة عليا وإلام يؤدي؟ هل هذا يسمح مثلا بتحديد نسل بعض الطوائف أو تعقيم بعض رجالها؟ أو يسمح بالتصفية العرقية؟
وختم صاغية بالقول ان المنحى الواضح هو لـ«ضمان التوازن نفسه للطوائف، وعليه يبيح النظام لنفسه التعدي على الحقوق الأساسية للمواطنين». وخلص إلى ثلاثة دروس أساسية تستند إلى «ضرورة استعمال القانون كسلاح، ضرب الهرمية المبنية على محسوبية السلطة داخل القضاء والمهن القانونية، عدم اكتفاء منظمات المجتمع المدني باللوبي وإنما يجب ان تطحش بالحقوق الأساسية إلى الآخر».
وتركز النقاش على الزواج المدني وعدم تكتل منظمات المجتمع المدني وطلابه ونقاباته وشخصياته في خوض المواجهة الجامعة والموحدة في وجه السلطة وتفضيلها مصالح الطوائف على الحقوق الأساسية للمواطنين، بدلا من خوض كل جهة معركتها في زاروب ضيق.