الموازنة قبل الخطة: كوضع العربة قبل الحصان - جريدة المدن - انطوان حداد

 

 - Jan 25, 2022



 نشرت الحكومة الأسبوع الماضي مشروع موازنة 2022، متأخراً ثلاثة أشهر ثمينة، تم اهدارها على مذبح التعطيل المتنقل من طرف إلى آخر داخل تحالف السلطة، التي فشلت في كل شيء إلا في القدرة على الاستمرار. لكن هذا موضوع ملفت آخر يستحق نقاشاً خاصاً مطولاً.


بالعودة إلى الموازنة، فإن نشرها وادعاء إتمام خطوطها العريضة، في بلد يعاني أخطر أزمة وجودية في تاريخه، لا بل أكبر أنهيار اقتصادي مالي في التاريخ العالمي الحديث، قبل الإفصاح عن الخيارات الكبرى لـ"خطة التعافي" التي طال انتظارها، إنما يقع في خانة من إثنين: إما الجهل المطبق للعلاقة الحاكمة بين الخطة والموازنة، أو هو نهج اللا-شفافية والأجندات والمصالح المستترة في صنع الخيارات والقرارات وفرضها كأمر واقع، ثم التباري في التبرير والتبرؤ من آثامها وتقاذف المسؤولية بعد خراب البصرة. وأغلب الظن أنها مزيج من الاثنين مع أرجحية الاحتمال الثاني، الذي يشكل القاعدة الذهبية ونظام التشغيل الأساسي لنهج المحاصصة والفشل والتبعية المكرّس في السنوات الأخيرة.

مرت سنتان ونيف على بدء الانهيار، تُرك خلالها اللجام على غارب الأزمة، وغابت أية معالجة فعلية. هي سياسة متعمدة هدفت وأدت إلى تحميل الفئات الشعبية ومتوسطي الدخل وصغار المودعين الأثمان الباهظة للانكماش والتضخم وتذويب الودائع. الخطوة الوحيدة الخجولة على طريق المعالجة في رحلة الألف ميل، كانت مؤخراً تحديد الحجم الإجمالي للخسائر أو ما يعرف بالفجوة المالية، وإن كان هذا الرقم التقريبي (68 مليار دولار) يستدعي الجدل والتدقيق. ليست حتى خطوة كاملة! هي بالتحديد نصف خطوة، لأن المتمم الأساسي لها -أي توزيع هذه الخسائر- لم ينجز، او أقله لم يعلن بعد.

توزيع الخسائر بين القطاع العام، الخزينة ومصرف لبنان، والمصارف، والمودعين، وبين فئات المودعين أنفسهم، ومساءلة كل طرف بحسب مسؤولياته، ثم تغريمه بقدر مسؤولياته وامكاناته، ومن ضمن رؤية متوازنة للمصلحة العامة، هو السؤال الأول المتعلق بالاقتصاد السياسي للبنان للمرحلة المقبلة، وبمثابة حجر الأساس للبنيان الاقتصادي والاجتماعي فيه. التوزيع المرتقب للخسائر سيرسم الملامح التأسيسية لكل من القطاع العام، النظام المصرفي، بيئة الأعمال، والطبقات الاجتماعية في لبنان في السنوات العشر المقبلة. ليس أقل من ذلك. ولا غرابة إن خيضت حوله في السنتين المنصرمتين معارك طاحنة، ظاهرة ومستترة، استخدمت فيها كافة أسلحة البلاغة والخداع والضغوط السياسية والنقدية، حتى حيل دون إنجازه. توزيع الخسائر هذا له انعكاس مباشر وجذري على الدين العام وهيكلته وخدمته، كما على مؤسسات القطاع المصرفي وأرقام أعمالها وتكليفها الضريبي وحتى استمرارية بعضها، كذلك على الودائع وبنيتها والضرائب المفترض أن تقتطع منها.

كيف لموازنة حقيقية، غير صورية، أن توضع من دون أن تبنى على تقديرات حقيقية وواقعية لهذه العوامل الحاكمة؟ إلا اللهم إذا كان هذا التمرين التأسيسي مؤجلاً، ما يفقد الموازنة إحدى وظائفها الرئيسية، أو هو مضمر، أو قد أُنجِز في الكواليس ولا ينتظر إلا تمريره وفرضه كأمر واقع، من دون أي نقاش أو مشاركة أو مساءلة.

ثمة قضية ثانية لا تقل أهمية في رسم ملامح أية موازنة، ويفترض أن تقع أيضاً في صلب "خطة التعافي" الموعودة، هي التدفقات المالية الخارجية. والأسئلة في هذا المجال عديدة. مثلاً، عند أي مستوى من القروض والمساعدات الخارجية المرتقبة وضعت أرقام الموازنة؟ وما هي السيناريوهات الراجحة في هذا المجال؟ وعلى أي فرضيات سياسية أقيمت هذه السيناريوهات، ليس ربطاً بصندوق النقد وحسب، بل بمجمل علاقات لبنان الدولية والعربية؟ يخطئ من يعتقد أن هذه المسألة الجوهرية محايدة أو من دون تأثير في رسم ملامح الموازنة، أقلُه في عنصر لا مفرّ من التعامل معه هو سعر الصرف.

لا يفصح نص الموازنة عن سعر الصرف الذي تتبناه. بل يترك الأمر عمداً إما للتلميح من خارج النص (15 ألف ليرة للدولار حسب ما سرّب إلى إحدى وكالات الأنباء الأجنبية)، أو للتحديد الاستنسابي اللاحق من قبل الحكومة أو الوزارة، كما ورد في إحدى المواد. التحديد اللاحق هو بالطبع هرطقة غير مسبوقة في أي موازنة تستحق هذه التسمية، لأنه يضرب الوظيفة الأساسية لقانون الموازنة، ألا وهي القدرة على الترقب والاحتساب، التي ستنتفي حتماً بفعل الاستنسابية في تحديد كلفة الإنفاق الجاري. كما يفقد الشعب وممثليه أي قدرة حقيقية على مساءلة السلطة والحكومة ومحاسبتها عن مصير أمواله.

يجب الإقرار أن معضلة سعر الصرف ليست مسألة بسيطة وسهلة البت، ولا ترتبط بالتدفقات المالية وميزان المدفوعات والميزان التجاري فقط. لكن تضييق الخيارات حول تلك المسألة (تثبيت أو تعويم؟ أحادي أو متعدد؟ سعر الفائدة؟ إلخ..) هو شرط مسبق لصياغة أي مشروع موازنة، حقيقية وواقعية وقابلة للتنفيذ.

تبقى مسألة أساسية تتعلق بالإنفاق الاجتماعي. هل تعتقد الحكومة وخلفها سلطات الأمر الواقع، أنها، في ظل الانهيار الكارثي والجحيم الاقتصادي الذي انحدرنا إليه، تستطيع النفاذ بموازنة تستحق هذ التسمية، ولا تتضمن نظرة مختلفة جذرياً إلى موضوعي الحماية الاجتماعية وشبكة الأمان الاجتماعي، وهو ما يجب أن تتضمنه أي خطة تعافٍ، أقلّه استجابةً لتوصيات صندوق النقد والبنك الدولي، اللذين يدركان بحكم تجربتهما العالمية أن التنفيذ الناجح لأي خطة يجب أن يترافق مع توفير الاعتمادات اللازمة لتأمين الاستدامة الاجتماعية، على صعد الغذاء والمسكن والصحة والتربية. هذه كلها أنظمة سحقت أو اندثرت مؤخراً في لبنان، خصوصاً الضمان الصحي والضمان الاجتماعي، اللذين كانا يعانيان أصلاً قبل الأزمة، ولا نجد في مشروع الموازنة ما يشي بما يكفي لبدء ترميمها.

الحديث عن أي موازنة بمعزل عن خطة تعافٍ شفافة ومكتملة المعالم هو كضربة سيف في الماء، أو كمن يضع العربة قبل الحصان.

أضف تعليقك





الرئيسية
من نحن
استشارات
مواقع صديقة
فئات خاصة
أراء ,مقالات و تحقيقات
دراسات ومؤتمرات
القطاع التعليمي، التربوي، الصحة و الدواء
النظام الداخلي للمركز



يوجد حاليا

زائر حالياً  
© جميع الحقوق محفوظة جمعية المركز اللبناني للتدريب النقابي

إن الآراء الواردة في الموقع تمثل أصحابها وليس بالضرورة رأي الجمعية
تصميم و برمجة