عمالة الأطفال في المقابر فتيان يقدّمون خدمات التكفين وتنظيف القبور - جريدة الاخبار - فاطمة شقير

 - Dec 02, 2013



 اطفال يعملون في المقابر، يقدمون خدماتهم لدفن الموتى وتكفينهم والعناية بقبورهم وتنظيفها... هؤلاء، الذين التقت بهم «الأخبار» في مقبرتي «الشهداء» و«الشهيدين» المتجاورتين، يجسدون واحدة من اكثر النتائج كارثية لانهيار مفهوم الدولة ودورها وتلزيمه لجمعيات «طائفية» لا تهتم بحق الطفل ولا في حاجاته التعليمية والصحية والبدنية والنفسية

 

ما إن يرى شخصاً متوجهاً نحو قبر ما من مقابر المدفن، حتى يهرع بقدميه الصغيرتين ليبدي مواساة اضطر أن يتصنعها لكسب عيشه. طفل ذو سنوات قليلة، يحمل دلو ماء ينظف به ما تركه الموتى من اثر، وإسفنجة يمسح بها غبار الحزن عن القبور. يسارع إلى الوقوف بجانب ذوي الموتى، رافعاً يديه إلى السماء، مثلهم تماماً، مختتماً الموقف بما قد يدر عليه رزقاً، بعبارتين: «الله يرحمه، بنظفلك القبر؟». وبعد إتمام المهمة، وتقاضي ثمن المواساة التي تكبدها لدقائق، يمضي ليكمل مباراة كرة القدم التي كان قد بدأها مع أترابه بين القبور.
هكذا يمضي أطفال القبور يومهم. يعملون في تنظيفها، الحفر عليها، المساعدة في تكفين ومواراة الثرى، من جهة، ويلعبون، استكمالاً لطقوس الطفولة من جهة أخرى.
يوسف يملك ثلاثة عشر عاماً من الحرمان، يعمل بمؤازرة ابن عمه محمد، ابن الـعشرة أعوام، في تنظيف القبور بحسب طلب ذوي الموتى، حفر الأسماء وآيات القرآن عليها، بالإضافة إلى التكفين ومتابعة شؤون الدفن. الطفلان من التابعية السورية، نزحا مع عائلتيهما بعد اندلاع الأحداث السورية، واتخذوا من منطقة «حي فرحات» الشعبية مقراً لهم. كما ارتأى الآباء زج ابنيهما في العمل داخل مدافن روضة الشهيدين في منطقة الغبيري. من جهته، يعمل والد محمد في المدفن أيضاً، فهو يراقب عمل الطفلين، ويحرص على عدم إكثارهما الأحاديث مع زوار المقابر. لا يفرّط الطفلان بأي لحظة قد تستغل للحفاظ على الطفولة. تلك التي لن تدوم كثيراً وسط أحاديث الموت والموتى. يلعبان بالكرة كثيراً، ويكون جواب محمد دائماً «ليش بدنا نخاف، هم ميتين وبالقبر». أما يوسف، الأكبر نسبياً، فيقول عن الرهبة التي فقدوها «إنو منضيع وقت شوي باللعب، ما في شي بيخوف، يلي مات ما رح يقوم».
محمد ويوسف ليسا وحدهما من أطفال مقابر، بل هناك محمد وعبد الله شري، طفلان من جنوب لبنان. هما يعملان أيضاً في مقبرة «الشهداء»، المحاذية لمسجد « الخاشقجي» في بيروت. يعاونان عمهما في العمل داخل المقبرة، بالمواصفات نفسها لعمل طفلي مقبرة «الشهيدين»، تنظيف وحفر وغيره. عبد الله أمضى 4 سنوات من طفولته في هذه الأعمال، ولا يزال. لدى سؤاله عن سبب تواجده هنا يقول «صرلي زمان، ما في حدا يصرف ع أخواتي». علامات الخجل تبدو واضحة على محيّاه . بعد الانتهاء من أعمالهما، وتقاضيهما أموالاً زهيدة لقاء المسح والتنظيف، يركضان بعيداً ليتقاسما المال. فيقع الخلاف بينهما. ثم يعود محمد، الأصغر سناً، ويسأل «خالتو هول إلي وإلو؟ أو بس إلو؟».

مسؤولو المقابر غير مسؤولين

في السياق، وفي تحديدٍ للمسؤوليات، أبدت إدارة المدافن في جمعية المقاصد الإسلامية، المسؤولة عن مقبرة «الشهداء»، استغرابها لوجود أطفال يعملون هناك. وفي اتصالٍ مع «الأخبار»، نفت الجمعية علمها بما يحدث، علماً أن موظفيها مسؤولون تماماً عن ترتيبات المدافن وإدارتها.
من جهة أخرى، ساد الارتباك وتضارب المواقف بين أعضاء لجنة الوقف في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، المسؤول المباشر عن إدارة مقبرة «الشهيدين ». فالعضو في اللجنة الدكتور منصور منصور اعتبر أن عمالة هؤلاء الأطفال هي «مسؤولية الدولة اللبنانية وليست مسؤولية اللجنة»، قائلاً «بس الدولة تشيل الأولاد من الشارع نحنا منشيل الأولاد من المقابر». علما انه نفى في بداية حديثه لـ«الأخبار» وجود أطفال يعملون في المقابر، محاولاً إثبات العكس، وما لبث أن اعتبر أن مسؤولي حراسة المقبرة لا يستطيعون منع أحد من الدخول بقوله «يصطفلوا».
وفي ردّ على تصريح منصور، أكد مدير الأوقاف في المجلس الشيعي محمد حرب، أن لجنة الأوقاف مسؤولة عن المقبرة، وعن دخول الناس وخروجهم إليها، بما فيها من محافظة على المقابر. ورفض حرب تصريح منصور، مستنكراً عمل الأطفال في المقبرة.
إزاء غياب الرقابة التام عن المقبرتين المذكورتين ومحاولة المسؤولين تبرير هذا التسيب، تجدر الإشارة أن الأطفال يعملون لساعات طوال ومتواصلة، إذ إنهم لا يدخلون خلسة ولا يتخفون خلال عملهم في النهار. وهو ما كان ثابتا في جولة «الأخبار» الميدانية على المقابر. لكن بعد طلب الإذن المسبق من إدارة مدافن «روضة الشهيدين» بالتصوير، مُنع المصور من التقاط صور الأطفال أثناء عملهم، بينما رفضت إدارة جمعية المقاصد التصريح بدخول الكاميرا إلى مدافن « الشهداء».

الآثار النفسية والاجتماعية

يقول الطبيب والاستشاري النفسي د. باسكال رعد عن دوافع عمالة الأطفال في المقابر أنها متعددة، فإما يكون الدافع مادياً، إذ إن ظروفاً معيشية قاهرة تدفع بالأهل لزج أبنائهم في تلك المهنة. أو يكون الدافع هو الهروب من حرج ما، كأن تكون مهنة تنظيف القبور محرجة للأب مثلاً، فيوكلها لابنه بدلاً عنه. أما عن تأثير هذه الأعمال على نفسية الطفل وتكوين شخصيته، فيعتبر رعد أن «للموت رهبة كبيرة لدى جميع المجتمعات، والعمل بين المقابر قد يكسر الخوف والرهبة منه، وبالتالي استباحته وجعله عادياً».
في الحديث عن الإدراك لدى الطفل، وقدرته الاستيعابية المرتبطة بعمره، يقول رعد إن «انغماس الطفل بفكرة الموت باكراً مؤذ، وذلك لأنه لديه درجة معينة من الإدراك»، مضيفاً «ان ممارسة الجنس لدى مجتمعات كثيرة قبل بلوغ عمر الـ 18، تعتبر محفوفة بالمخاطر، بسبب عدم اكتمال الإدراك الكافي عند الطفل أو المراهق. كذلك هو الأمر بالنسبة للموت». ويشير إلى أن «الموت صادم بشكل عام، ويجب أن تُقدم ماهيته للأطفال بشكل تدريجي».
ويتابع رعد «إن انغماس الإنسان مبكراً في مسألة الموت يقضي على عامل «القيمة» لديه، بالإضافة إلى انعدام أي «تقدير للحياة» عندها.
ويختم رعد إيضاحاته عن خطورة عمالة الأطفال في المقابر بالإشارة إلى ما يسمى «القيمة الذاتية» لدى الإنسان، التي تتغير بتغير نوع العمل. متابعاً «عندما نترك الطفل مع أشخاص ماتوا، نكون قد حكمنا عليه بعدم التطور والانعزال عن المجتمع الواقعي».

الدولة غير مهتمة

في اتصالٍ مع النائب ميشال موسى، رئيس لجنة حقوق الانسان النيابية، قال لـ«الأخبار» إن «القانون اللبناني واضح في هذا الشأن، أي أن عمالة الأطفال ممنوعة. وقد سبق لوزارة العمل أن وضعت مشروعاً لتنظيم هذه المسألة، سرعان ما توقف العمل به».
من ناحيتها، اعتبرت رئيسة «وحدة مكافحة عمل الأطفال» في وزارة العمل نزهة شليطا، أن عمل الأطفال في المقابر هو «أسوأ أنواع العمالة»، كما أبدت استغراباً شديداً لوجود الأطفال بين الموتى.
لكن البيروقراطية الإدارية في المؤسسات اللبنانية تقف مجدداً عائق أمام التحرك، إذ إن شليطا ما زالت تنتظر رد وزير العمل على فاكس أرسل سابقاً من قبل «الأخبار» بطلب الموافقة على مقابلتها، وبالتالي إيفائها بالتفاصيل، ومن ثم التحرك!
يتسابق أطراف المسؤولية، دولة ومؤسسات وجمعيات وافراداً، على قذف كرة الاتهام فيما بينهم، بينما يتسابق محمد ويوسف وعبد الله، والكثير غيرهم من أطفال المقابر، نحو التضحية بطفولتهم في سبيل كسب لقمة مرة من عرق الموتى وأحزان ذويهم.
أضف تعليقك





الرئيسية
من نحن
استشارات
مواقع صديقة
فئات خاصة
أراء ,مقالات و تحقيقات
دراسات ومؤتمرات
القطاع التعليمي، التربوي، الصحة و الدواء
النظام الداخلي للمركز



يوجد حاليا

زائر حالياً  
© جميع الحقوق محفوظة جمعية المركز اللبناني للتدريب النقابي

إن الآراء الواردة في الموقع تمثل أصحابها وليس بالضرورة رأي الجمعية
تصميم و برمجة