النجاح بتعميم التعطيل: مرحبا إستثمارات - جريدة نداء الوطن - وليد شقير

 
 - Jan 27, 2023



 في زمن انحلال الدولة الذي لم يعد من مجال للشك بأننا وصلنا إليه بحكم انكشاف القضاء اللبناني على انقسام علني غير مسبوق، تبدو المخارج من المآزق المتفرّعة من الخلاف على تكوين السلطة، والتي يغرق فيها لبنان، مستعصية إلى درجة أنّ كل مأزق يولد مآزق جديدة من رحمه، لتطول السلسلة وتنسينا الحلقة السابقة.

أسوأ ما حصل تحوّل القضاء إلى حلبة تراشق. وهو ليس سوى نسخة عن العبث السياسي القاتل، إضافة إلى الإمعان في جعل هذا الصرح وسيلة لدى بعض السياسيين للانتقام من خصومهم، باستخدام منبر العدالة من أجل التغطية على الجرائم المرتكبة أو حرف الأنظار عنها، وابتداع مرتكبين لها، غير من قام بها، وإلصاقها بهم، أو تفريغ أي محاولة للكشف عنها بتعطيل الآليات القضائية والجنائية للوصول إلى الهدف، فتصبح جرائم مر عليها الزمن، وكذلك على مرتكبيها الذين يصبحون في عداد الأموات. إنّه نهج تعطيل العدالة. هذا ما حصل لقطع الطريق على كشف سلسلة جرائم الاغتيالات، والوصول إلى الحقيقة في شأن السرقات والمنهبة التي تعرض لها اللبنانيون على مدى عقدين...

نهج التعطيل ينخر جسم القضاء كأداة لتحقيق العدالة منذ عقود، ترسَّخ أيام الوصاية السورية، واستمر بعدما استلم «حزب الله» الهيمنة على القرار السياسي، بموازاة تعطيل المؤسسات السياسية الدستورية، من أجل الاستحواذ على توجهاتها، أو شلّها في أحسن الحالات، إلى أن شهدنا في الفصل الأخير كيف جعلت عدوى التعطيل من السهل إتمام المهمة من داخل الجسم القضائي نفسه. وهي سابقة ولو كانت شكلية، فإنّها في الجوهر تقضي على أي آمال بقيام السلطة القضائية اللبنانية مجدداً، يوماً ما، إذا نشأت ظروف تحد من تعطيل المؤسسات الدستورية الأخرى، لينتظم عملها وفقاً للدستور والحد الأدنى من مبادئ وشروط سيادة منطق الدولة. ولهذا السبب هناك من يعتبر أنّ انتخاب رئيس الجمهورية لن يكون بداية الخلاص، بل مجرد خطوة لملء الفراغ بالإسم، لأنّ لا قدرة لدى أي رئيس حتى لو أراد، على تجاوز التركيبة السياسية الحالية التي تمعن في تدمير المؤسسات كي تبقي على نفوذها. في المراحل السابقة من تعطيل سائر مؤسسات الحكم وإدارة شؤون البلاد، كان الأمر يقتضي، في الشكل، الحديث عن استقلالية القضاء وأنّه الملاذ الأخير لتثبيت حكم القانون، على رغم إدراك الجميع ما يعانيه من شوائب وعلل. أمّا بالفعل، فإنّ القوى السياسية كانت تستحوذ على النفوذ الحزبي في كل منصب مفتاح في مواقع العدلية. شيئاً فشيئاً كانت قوى السلطة تتناوب على استخدام آفة تعطيل الخصوم من خلال تلك المواقع.

وصفُ ما آل إليه التحقيق في جريمة انفجار المرفأ على أنه عصفورية، أو هستيريا، والعجز عند من يعرفون أنّ للعدلية تاريخاً عريقاً يمكن الاستناد إليه لاستيعاب الأخطاء السابقة، عن هضم ما يحصل، دليل على أنّ المشهد يساوي ضرب الآمال بإمكان عودة تلك المؤسسة إلى سابق عهدها، أيام كان يتولى جهابذة وعلماء شكلوا قدوة أخلاقية ومراجع فقهية، قيادتها.

بعض قدامى القضاة الذين عايشوا المراحل التي يفخرون بمجايلة جهابذة تلك المؤسسة خلال عقود، يعتبرون أنّ استعادة الانتظام العام إليها سيحتاج إلى أكثر من عشر سنوات إذا بدأت عملية الإصلاح فيها اليوم.

من علامات نجاح نهج التعطيل أنّ القضاء صار يعطل نفسه بنفسه، وليس فقط بتعليمات سياسية من خارجه. يعترف «حزب الله» بنفسه وعلناً، بأنهّ وراء هذا النهج، من دون أي حرج. فلمناسبة خلافه مع «التيار الوطني الحر» على ترشيح سليمان فرنجية، أو على اجتماع مجلس الوزراء، ولوم النائب جبران باسيل «الحزب» لأنه لا يقف إلى جانبه في هذين الموضوعين وفي عناوين عدة مفضلاً حلفه مع الرئيس نبيه بري عليه، يردد قادة «الحزب» في كل مرة يسوق باسيل حججه إزاء الحليف بالقول: «عطّلنا البلد سنتين ونصف السنة حتى انتخاب الرئيس ميشال عون، وعطّلنا تشكيل حكومات لأننا كنا نصرّ على أن تختاروا من يمثّلكم في الحكومات والإدارات. تردّد سوق هذه الحجة عشرات المرات على ألسنة قادة «الحزب»، ومرت مرور الكرام في سياق السجال السياسي. فهل هناك أوضح من تلك العبارة التي بلسان قيادته تؤكد التباهي بتهمة التعطيل على من مارسها، فاستساغ باسيل وغيره بدورهم ممارستها، في السنوات الماضية، فباتت قاعدة في الحياة السياسية، ولم تعد استثناءً، إلى أن استخدمت في القضاء لوقف التحقيق في جريمة المرفأ، وصولاً إلى ما نشهده الآن من تعميم لاعتمادها؟

تحوّل التعطيل وفنونه إلى العمود الفقري للحياة السياسية وعمل المؤسسات، اقتبسه حتى بعض خصوم «الحزب». وعلى رغم الدهشة التي أصابت من استفظعوا الدرك الذي بلغته العدلية، فإنّ البلد انزلق إلى مرحلة ميئوس منها. ولا عجب من أن تتفاقم أزماته على المستويات كافة، وأن تصبح هذه قناعة الدول المعنية وتنظر إليه على هذا الأساس. مرحبا استثمارات...

أضف تعليقك





الرئيسية
من نحن
استشارات
مواقع صديقة
فئات خاصة
أراء ,مقالات و تحقيقات
دراسات ومؤتمرات
القطاع التعليمي، التربوي، الصحة و الدواء
النظام الداخلي للمركز



يوجد حاليا

زائر حالياً  
© جميع الحقوق محفوظة جمعية المركز اللبناني للتدريب النقابي

إن الآراء الواردة في الموقع تمثل أصحابها وليس بالضرورة رأي الجمعية
تصميم و برمجة