خطوات متسارعة لتشريع "الكابيتال كونترول": غطاء قانوني لاستبداد المصارف - جريدة المدن - علي نور

 

 - Mar 05, 2020



 تتجه الحكومة وباستعجال لإقرار مشروع قانون، يشرّع وينظّم إجراءات ضبط السيولة التي تتخذها المصارف منذ تشرين الأوّل الماضي، والتي تُعرف بـ"الكابيتال كونترول". ومن المفترض أن يُحال مشروع القانون إلى مجلس النوّاب لإقراره بالسرعة القصوى، على أن يلي ذلك تعميم من مصرف لبنان لإقرار آليّات تنفيذ القانون بعد إقراره. وبينما جرى إعداد وتعديل مسودّتي مشروع القانون والمرسوم بعيداً عن الأضواء، نظراً لحساسيّة الموضوع، تشير المعطيات المتوفّرة إلى وجود علاقة بين هذه الخطوات المتسارعة اليوم وخطوة تخلّف لبنان عن سداد سندات اليوروبوند المتوقّعة خلال أيام.


على أعتاب التعثّر
تشير جميع المؤشّرات إلى إتجاه لبنان إلى إعلان تخلّفه عن سداد سندات اليوروبوند، التي ستستحق خلال هذا الشهر. خصوصاً بعد اختيار الدولة لشركة استشاريّة ماليّة ومكتب قانوني دولي. وهو ما يمكن اعتباره العدّة الضروريّة قبل الدخول في أي مفاوضات أو نزاعات قانونيّة مع الدائنين. وفي بادىء الأمر، سعت الدولة لأن يكون هذا التخلّف منظّماً، أي بالاتفاق مع حملة سندات الدين. لكنّ تعثّر التفاوض مع الدائنين الأجانب يدفعها اليوم باتجاه التخلّف غير المنظّم، أو الأحادي. وهو ما يعني الدخول في نفق نزاع قانوني ومسار تفاوضي شاق مع هؤلاء الدائنين. 

وبطبيعة الحال، تدرك الدولة أن الدخول في هذا النفق سيعني استعمال الأطراف الخارجيّة لجميع الأدوات القانونيّة المتاحة، للضغط على الحكومة اللبنانيّة والنظام المالي اللبناني. وبينما سيتركّز جزء كبير من الضغط القانوني على الدولة اللبنانيّة نفسها، المتخلّفة عن السداد، من المتوقّع أن يتم تصويب جزء آخر من هذا الضغط على المصارف اللبنانيّة، التي تشكّل اليوم خاصرة النظام المالي اللبناني الرخوة، من خلال تحريك الدعاوى القضائيّة على المصارف اللبنانيّة في المحاكم الأجنبيّة، على خلفيّة امتناعها عن السماح للمودعين بتحويل ودائعهم للخارج، أو سحبها من النظام المالي اللبناني.

بالإضافة إلى ذلك، سيؤدّي تخلّف الدولة رسميّاً عن سداد سندات اليوروبوند، وبشكل أحادي، إلى تدهور التصنيف الائتماني للدولة اللبنانيّة تلقائيّاً. وكنتيجة لذلك، من الطبيعي أن يتدهور أيضاً تصنيف المصارف الائتماني نظراً لارتباط معظم موجوداتها بالديون السياديّة، سواء تلك المرتبطة بالحكومة أو بمصرف لبنان. وهكذا، سيتضاعف الضغط على سيولة المصارف، وخصوصاً من قبل المودعين والدائنين، الذين يملكون القدرة على استعمال الوسائل القانونيّة في الخارج. وستزيد قدرتهم على استعمال هذه الوسائل القانونيّة واستعجالهم لها عند تدهور التصنيف الائتماني للمصارف وللدولة اللبنانيّة.

ومن الناحية العمليّة، سيعني استعمال هذه الوسائل القانونيّة في وجه المصارف اللبنانيّة، وبالأخص في محاكم الولايات المتحدة الأميركيّة، تعريض جميع موجوداتها في الخارج إلى مخاطر الحجز، سواء كانت هذه الموجودات على شكل حسابات لدى المصارف المراسلة، أو توظيفات ذات طابع استثماري في الأدوات الماليّة المتداولة، أو حتّى أسهم في المصارف التي تمتلكها في الخارج. وهو ما سيعني التفريط بأصول ثمينة يملكها النظام المالي في الخارج بالعملة الصعبة.

وهكذا، تستعد الدولة اللبنانيّة اليوم لمرحلة ما بعد التعثّر، من خلال تحصين النظام المصرفي قانونيّاً، عبر خلق إطار تشريعي متكامل يحمي إجراءات ضبط السيولة التي تمارسها. وستمتلك المصارف بعد إقرار القانون وإصدار المرسوم عن مصرف لبنان الغطاء اللازم لها، خصوصاً أن عمليّاتها المصرفيّة ضمن نطاق الأراضي اللبنانيّة تخضع بشكل تلقائي للقوانين والمراسيم التنظيميّة اللبنانيّة بالدرجة الأولى.

لا جديد بالنسبة للمودعين
عند بدء الحديث عن تشريع الكابيتال كونترول، جرى تسويق المسألة على أنّها عمليّة تنظيم لهذه الإجراءات، للتخلّص من الاستنسابيّة التي تمارسها المصارف على المودعين. لكنّ الإطلاع على أهم البنود التنظيميّة، التي من المتفرض أن ينص عليها مشروع القانون والمرسوم المرتقب، يظهر أنّ مشروع القانون لن يغيّر كثيراً في طبيعة الإجراءات التي يتم العمل بها حاليّاً في المصارف.

فمسألة ضمان حريّة التصرّف بالأموال الطازجة، أو الـFresh Money، أصبحت إجراءً متبعاً في الغالبيّة الساحقة من المصارف اللبنانيّة، بل باتت المصارف تسعى لاستقطاب هذا النوع من الودائع عبر تسويق أنواع معيّنة من الحسابات الخاصّة بذلك. أما حرية تحويل الأموال بين الحسابات المصرفيّة داخل لبنان، فهي مسألة مسلّم بها منذ تشرين الأوّل الماضي، سواء جرى هذا التحويل من خلال الشيكات أو البطاقات الائتمانيّة أو التحويلات.

عمليّاً، يراهن البعض على مشروع القانون والمرسوم المرتقب من أجل ضمان إجراء التحويلات إلى الخارج، لتغطية النفقات الشخصيّة الملحّة. لكنّ تعميم جمعيّة المصارف –الذي تعتبره المصارف اليوم مرجعيّة تستند إليها عند تطبيق هذه الإجراءات- ينص أساساً على هذه المسألة، فيما تطبّق المصارف هذه المبدأ من خلال عمليّات بيروقراطيّة معقّدة، تقدّر من خلالها مدى ضرورة التحويل الذي يطلبه العميل. وهكذا، تكمن المشكلة الأساسيّة هنا في طبيعة الإجراءات المتخذة داخل كل مصرف لتطبيق هذا المبدأ، وليس في إقرار المصارف به كقاعدة.

قد يعتبر البعض هنا أن القانون يمكن أن يمثّل عامل ضاغط على المصارف لاحترام هذه القاعدة، والسماح بالتحويلات التي تستهدف تغطية النفقات الشخصيّة الملحّة وفق معايير محدّدة. لكن القانون في المقابل سيعني تشريع عمليّات ضبط السيولة بأسرها كقاعدة ثابتة ومقوننة. فيما سيصبح الاستثناء هو السماح بالتحويلات المحدودة في حالات الحاجة الماسّة، بينما من المفترض أن تكون عمليّة ضبط السيولة أساساً عمليّة استثنائيّة تجري اليوم في ظروف خاصّة ولفترة زمنيّة محدودة.

وعلى أي حال، يعتبر بعض من يسوّقون لمشروع القانون أن هذا التشريع سيسمح بتطبيق الإجراءات المصرفيّة على الجميع من دون استثناءات، كما سيسمح بضمان عدم تملّص بعض النافذين من هذه الإجراءات. لكنّ مسار تهريب الودائع إلى الخارج جرى عمليّاً منذ بداية السنة الماضية كما أظهرت الأرقام. وهذا المسار مكّن أصحاب النفوذ القادرين على تهريب ودائعهم من إجراء التحويلات الماليّة التي يريدونها قبل إقرار أي قانون. وهكذا، وبعد أن سمحت المصارف خلال الفترة الماضية بتحويل ودائع مجموعة من كبار المودعين والنافذين، سيعني تشريع الإجراءات المصرفيّة اليوم، قوننة ما تقوم به المصارف بحق باقي المودعين الذين لم يمتلكوا النفوذ الكافي للقيام بهذا النوع من العمليّات.

ما تقوم به المصارف بالمقابل
قامت إذاً الدولة خلال الفترة الماضية بالبحث عن الطرق المناسبة لتوفير الغطاء للقطاع المصرفي، على أعتاب الدخول في مرحلة التعثّر. لكنّ المصارف اللبنانيّة لم تبادل الدولة في المقابل هذا الحرص والاهتمام. فمشكلة فشل الدولة في التوصّل إلى اتفاق مع الدائنين لإعادة جدولة سندات اليوروبوند، تعود أساساً لتمتّع الدائنين الأجانب بالقدرة على فرض فيتو في وجه أي اتفاق من هذا النوع. وقد نال الدائنون الأجانب هذه القدرة بعد أن باعت المصارف اللبنانيّة نسبة كبيرة من سندات اليوروبوندز التي تملكها لصالح الدائنين الأجانب، فور بدء الحديث عن إعادة جدولة السندات. وقد هدفت المصارف اللبنانيّة من هذه العمليّات إلى عرقلة أي مسعى يمكن أن تقوم به الدولة لفرض إعادة جدولة سندات اليوروبوند.

وخلال الأيام الماضية، جرى طرح بعض الأفكار، من قبيل الطلب من المصارف اللبنانيّة شراء مجموعة من سندات اليوروبوند المتداولة في الأسواق، في محاولة لتملّك نسبة كافية من السندات تسمح للدولة بالتوصّل إلى اتفاق معهم لإعادة جدولة هذه السندات. فعقود سندات اليوروبوند تنص على ضرورة حصول الدولة على موافقة مالكي 75 في المئة من السندات لأي شريحة من شرائح اليوروبوند، لفرض عمليّة إعادة جدولة. لكنّ المصارف رفضت الدخول في هذه العمليّة، معتبرةً هذا النوع من العمليّات تحايلاً على الدائنين الأجانب. مع العلم أن هذه المصارف نفسها قامت بالعمليّة ذاتها بشكل معكوس، حين باعت الدائنين الأجانب ما يكفي من سندات يوروبوند ليتمتّعوا بالقدرة على فرض فيتو على أي طرح لإعادة جدولة الدين.

على من نحرص اليوم؟
بين حرص الدولة على مصالح القطاع المالي، والنظام المصرفي تحديداً، وحرص النظام المصرفي على مصالحه أوّلاً، يقع لبنان على مشارف مرحلة تعثّر، تتطلّب إعادة نظر جذريّة في طريقة مقاربة الانهيار الحاصل. فالإبقاء على ضوابط السيولة الموجودة وقوننتها من دون أي إجراء آخر، لا تعني سوى القيام بعمليّة اقتطاع شاملة من قيمة الودائع بالدولار من جميع الفئات، من خلال فرض استعمالها لاحقاً بالليرة اللبنانيّة ووفق سعر الصرف الرسمي. أمّا المطلوب في المقابل لحماية أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة، فهو تنظيم عمليّة إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي، تحيّد ودائع هذه الفئة من المودعين بالتحديد من جميع الإجراءات.

هذا النوع من الأفكار لن يكون لمصلحة أصحاب المصارف ولا كبار المودعين بالتأكيد. ومقاربات الحكومة لا تبدو متّجهة اليوم إلى هذا النوع من الأولويّات. لكنّ خطوات من هذا النوع ستسمح وحدها بحماية محدودي الدخل من مرحلة الانهيار التي نعيشها.

 

أضف تعليقك





الرئيسية
من نحن
استشارات
مواقع صديقة
فئات خاصة
أراء ,مقالات و تحقيقات
دراسات ومؤتمرات
القطاع التعليمي، التربوي، الصحة و الدواء
النظام الداخلي للمركز



يوجد حاليا

زائر حالياً  
© جميع الحقوق محفوظة جمعية المركز اللبناني للتدريب النقابي

إن الآراء الواردة في الموقع تمثل أصحابها وليس بالضرورة رأي الجمعية
تصميم و برمجة