الإقرار بالأزمة والنأي بالنفس - جريدة الاخبار - محمد زبيب

 
 - Sep 14, 2018



 مهما بلغت الاختلافات في تقييم حالة الاقتصاد اللبناني اليوم، وأي كانت وجهات النظر ومصادرها، فهي متوافقة (تماماً) على ثلاثة أمور مهمّة، يُردّدها الجميع (تقريباً)، كلٌّ من موقعه وتبعاً لمآربه وبلغته الخاصة:

1- الأزمة قائمة بالفعل، ومخاطرها ترتفع باطراد منذ عام 2011.
2- وهناك قرارات يتعيّن اتخاذها بسرعة لتجنّب الأسوأ، وهي قرارات صعبة.
3- وإن المسؤولية هي سياسية بالدرجة الأولى، وتقع على عاتق الحكومة ومجلس النواب والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، ولا يمكن تركها على عاتق المصرف المركزي وحده، أو ضمن قواعد «اللعبة النقدية» المُتمادية فقط.
هذا الإقرار بوجود «الأزمة» يشمل حتى «الانتهازيين» و«الببغائيين» وأصحاب «نظريات المؤامرة»، وبينهم سياسيون ووزراء ونواب وإداريون واختصاصيون وإعلاميون، ما انفكّوا يرسمون «صوراً قاتمة وبائسة»، ويخترعون «متطفّلين أجانب» لاتهامهم بها، ويخبروننا في النهاية، أن لا داعي للخوف، فلدينا بطلنا الأسطوري الخارق، قاهر الأزمات، الذي استطاع تثبيت سعر الصرف على 1507.50 ليرة لكلّ دولار طيلة 20 سنة متتالية. يقولون لنا إن «من نجح في الشرب من البحر لا يغصّ بالساقية»، وبالتالي كما تجاوزنا الأزمات السابقة سنتجاوز هذه الأزمة، فالمسألة مسألة «إيمان» أو «ثقة» أولاً، ومسألة «وقت» ثانياً، كما لو أن «شراء» الاثنين لا يرتّب أي أكلاف أو خسائر أو نتائج على الاقتصاد والمجتمع والسياسة.
تصعب محاججة هؤلاء، ولا سيّما عندما يصوّرون «سعر الصرف» كهدف نهائي بذاته، لا كأداة لتحقيق أهداف مُحدّدة، ويصرّون على الظهور في مظهر تأدية وظيفة الإساءة إلى الجدال الضروري والملحّ حول هذه «الأزمة» وماهيتها والخيارات المُتاحة في مواجهتها. كما لو أنهم من عدّة الشغل «الإعلامي» لطمس الجدال الجدّي في هذا الشأن، وبالتالي منعه من جذب الاهتمام العام، وإبقائه محصوراً بين قلّة من الفاعلين: حاكم مصرف لبنان (المُكلّف بالإدارة في ظل تغييب شبه تام للحكومة ومجلس النواب) وأصحاب رأس المال المُكدّس في الديون والمصارف والعقارات والاستيراد (الذين استحوذوا على معظم المكاسب والامتيازات حتى الآن واكتسبوا المزيد من السلطة) والمؤسّسات المالية الدولية (التي تجسّد سلطة رأس المال المعولمة وأيديولوجيته النيوليبرالية).
يتّخذ الجدال بين الفاعلين المذكورين طابعاً جدّياً وضاغطاً بشكل لافت. هنا، لا يوجد أي تردّد أو تمويه في الإعلان عن أننا في قلب الأزمة، أي إننا نعيش نتائجها بالفعل ونسدّد كلفتها ونتحمّل خسائرها. ولذلك يسارعون إلى تقديم تصوّراتهم لتجاوزها والمضي قدماً، بما يحافظ على مكاسبهم المُحقّقة ويزيدها باطراد. يطرحون «التقشّف» كعلاج، تسدّ الفئات الاجتماعية الضعيفة ثمنه، وينادون بالمزيد من الاستعاضة عن الدولة بالقطاع الخاص والمزيد من الحدود المفتوحة لتدفقات رأس المال والعمالة في الاتجاهين، ويرفضون المسّ بالامتيازات الضريبية والعوائد السخيّة التي يستحوذ عليها رأس المال. ما يعني بوضوح، وعلى عكس ما يُشاع في الإعلام، أن الاختلاف في التقييم ووجهات النظر لا يقع في حقل «الإقرار بوجود الأزمة» وإنّما في حقل تحديد هويتها و«التصوّرات المطروحة للتعامل معها»، أي في حقل «السياسة» حيث يدور الصراع الذي يفضي عادة إلى توزيع الأرباح والخسائر وفقاً لميزان القوى الاجتماعي القائم، ولا نحتاج إلى أدلّة كثيرة لإثبات أن هذا الميزان يميل تاريخياً لمصلحة رأس المال، وهو اليوم في ذروة اختلاله في ظلّ طغيان رأس المال عموماً على العمل. ولذلك، يُعدّ النأي بالنفس عن حقل هذا الصراع بمثابة التعبير الأكثر فداحة عن اتساع الاختلال، إذ لا يوجد في المقابل أي قوى مؤثرة، ما عدا مجموعة صغيرة ونادرة من المثّقفين الاقتصاديين والناشطين في الشأن العام تردّد أن هناك الكثير من الخيارات والبدائل، وتتعرّض للقمع والتهديد والعزل وصولاً إلى التخوين والتجريم، بذريعة «وهن نفسية الأمة» و«زعزعة الثقة بالنقد الوطني».
ولكن، مراجعة سريعة للوثائق والإحصاءات والمواقف والمؤتمرات، التي تخصّ الفاعلين المُهيمنين، تبيّن أنهم لا يتحدّثون عن أزمة عابرة سببها «وقائع مُلفّقة» أو «مزاعم كاذبة» لإحداث تدنٍّ في قيمة الليرة. بل يتحدّثون عن أزمة تمويل «بنيوية» في النموذج الاقتصادي اللبناني، الذي جرى ترسيخه منذ تسعينيات القرن الماضي. 
فاللعبة النقدية القائمة على الدولرة شبه الكاملة مع ربط الليرة بالدولار وتثبيت سعرها ورفع أسعار الفائدة على الليرة والدولار ودعم الفوائد الدائنة والمدينة وطبع العملة لتعزيز موجودات المصارف وزيادة ربحيّتها والتحكّم بالسيولة بالليرة وبالعملات الأجنبية وحبسها على دفاتر مصرف لبنان وزيادة المديونيات العامة والخاصة ودعم أسعار العقارات والرفع المالي في ميزانيات الأسر لتمويل الاستهلاك... كلها لم تعد تجذب ما يكفي من الرساميل الوافدة الصافية لتغطية العجز في الحساب الجاري، بسبب التغيّرات الخارجية وتنامي الحاجات المحلية وزيادة مستوى تركّز المخاطر في القطاع المالي، ما نتج عنه عجز مستمرّ في ميزان المدفوعات منذ عام 2011، وفق ما ورد في التقرير السنوي لجمعيّة مصارف لبنان لعام 2017. وهذا ليس مجرّد تفصيل، بل يصيب النموذج الاقتصادي القائم في قلبه ويعطّل ضخّ «الدولار» في شرايينه، إذ لم يشهد لبنان في تاريخه الحديث عجزاً متراكماً في ميزان مدفوعاته الخارجية لثماني سنوات متتالية (ما عدا في عام 2016) حتى في سنوات الحرب الأهلية. فالنموذج الاقتصادي القائم يرتكز في تمويله على قاعدة مُحدّدة، وهي أن تستمرّ التدفقات المالية الخارجية بالنمو بمعدّلات أعلى من نمو الحاجات التمويلية بالعملات الأجنبية لتمويل الاستيراد، وبالتالي الاستهلاك الخاص والعام، الذي يعدّ قاطرة النمو الاقتصادي في لبنان بدلاً من الإنتاج. وهذا ما يبدو أنه أصبح غير ممكن، ويستدعي «تحرّكاً سريعاً لتدارك إضعاف او استنزاف الاحتياطات بالعملات الإجنبية وإضعاف مناعة الأوضاع النقدية أو الاضطرار إلى رفع كبير لمعدّلات الفائدة، كما يحدث في تركيا والأرجنتين، أو اللجوء إلى هندسات مالية مُكلفة بغية استقطاب التدفقات المالية على نحو يسمح باستمرار النموذج الاقتصادي القائم»، وفق ما ورد في تقرير جمعيّة المصارف وقبله في بيانات صندوق النقد الدولي وتصريحات حاكم مصرف لبنان ووثائق الحكومة إلى باريس- 4 ومواقف «الهيئات الاقتصادية»، التي تخبرنا أن القطاعات التي تتحدّث باسمها في «وضع حرج» يتطلّب تدخّلاً واسعاً لإنقاذها من براثن الإفلاس وانخفاض الأرباح والانكماش والركود. ومثلها «النقابات» العمّالية والمهنية التي يقلقها جدّاً ارتفاع معدّلات البطالة والهجرة والفقر وتراجع الأجور وتضخّم أسعار السكن والصحة والتعليم والكهرباء والنقل والاتصالات وهشاشة منظومات الحماية القانونية والاجتماعية.
ما العمل في مواجهة أزمة كهذه؟ الجواب حتماً ليس في إنكارها أو النأي عنها أو بتركها لحاكم مصرف لبنان يقرّر فيها عنّا جميعاً، بل بإظهار المصالح في التغيير، وتشجيع التعبير عنها، ودكّ الأساطير والأوهام والتصدّي لقمع العقل والاعتراض، وإعادة الاعتبار لنقد الاقتصاد السياسي، ففي هذا النوع من الأزمات لا يوجد شيء اسمه ثوابت وإنّما صراع مصالح.

أضف تعليقك





الرئيسية
من نحن
استشارات
مواقع صديقة
فئات خاصة
أراء ,مقالات و تحقيقات
دراسات ومؤتمرات
القطاع التعليمي، التربوي، الصحة و الدواء
النظام الداخلي للمركز



يوجد حاليا

زائر حالياً  
© جميع الحقوق محفوظة جمعية المركز اللبناني للتدريب النقابي

إن الآراء الواردة في الموقع تمثل أصحابها وليس بالضرورة رأي الجمعية
تصميم و برمجة