بدعوة من إتحاد نقابات موظفي المصارف في لبنان والمركز اللبناني للتدريب النقابي تم تنظيم ندوة حول "الضرائب والموازنة العامة" شارك فيها الدكتور غسان صليبي والدكتور جاد شعبان والدكتور حسن مقلد، وحضر الندوة رئيس الإتحاد العمالي العام بشارة الأسمر وعدد من اعضاء مجلس مندوبي اتحاد موظفي المصارف وبعض رؤساء واعضاء النقابات والإتحادات النقابية ومنظمات المجتمع المدني والمهتمين في القطاعين العام والخاص.
أفتتح رئيس المركز اللبناني للتدريب النقابي أديب بو حبيب الندوة بكلمة ترحيبية بالحضور، منوهاً بأهمية المواضيع المطروحة في الندوة وتأثيراتها المباشرة على الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية للمواطنين وللإدارات والمؤسسات العامة والخاصة، وارتباط توقيت الندوة مع ما يجري تداوله من معلومات وقرارات خطيرة وتسويات مشبوهة في مشروع قانون الموازنة، لإسقاط ضرائب ورسوم تتعلق بالأرباح على البيوعات العقارية وأرباح شركات الاموال، وإعفاء بعض الإدارات والمؤسسات العامة والخاصة من ديونها ومن الغرامات والفوائد على هذه الديون، ولا سيما منها ديون الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي على الدولة، مما سيؤثر بشكل خطير على مالية الصندوق وتقديماته الصحية والإجتماعية.
أول المتحدثين في الندوة كان الدكتور غسان صليبي، كمدير للحوار، وجاء في كلمته: "تاريخياً، اتخذت الضرائب أشكالاً عدة: دفع جزية مقابل الحماية من القتل أو السرقة، تأدية أعمال سخرة، مساهمة في تمويل الجيوش والحروب، تقديم ضحايا للآلهة... وصولاً إلى دفع مبالغ معينة من أجل خدمات محددة".
التحول الأهم في مفهوم الضريبة كان اعتماد الضريبة التصاعدية على المداخيل، في إطار إعادة توزيع الثروات بشكل عادل. حصل هذا التحول في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد ترافق ذلك مع تعميم التأمينات الاجتماعية، ومأسسة المفاوضات الجماعية والحق بالتنظيم النقابي. على المستوى السياسي، جاءت هذه التحولات بموازاة إقرار مبدأ الاقتراع العام، كعنصر أساسي من عناصر الديمقراطية.
دلت دراسات معاصرة على الترابط الوثيق بين الضرائب من جهة ومستوى الديمقراطية ومؤشر التنمية البشرية والعدالة الاجتماعية من جهة ثانية. كلما ارتفع ثقل الأولى في الناتج المحلي، كلما ارتفع مستوى الثانية والثالثة. والتأثير متبادل بين الثلاثة. وقد شكل الإنفاق على التعليم عامل وصل أساسياً بين هذه المستويات.
في الإطار اللبناني، انتقلنا من الضريبة والسخرة التي فرضها العثمانيون على الفلاحين بواسطة الولاة والإقطاع، إلى الضرائب الليبرالية المخفّفة على الرساميل إبان دولة الاستقلال وحتى الحرب، مع نزعة ضرائبية إصلاحية في المرحلة الشهابية. خلال الحرب استمرت السياسة نفسها، إضافة إلى الخوات الإضافية من قبل الميليشيات والقوى الخارجية المهيمنة على الأرض. بعد الطائف وابتداء من 1992 سيطرت النزعة الاقتصادية النيوليبرالية، مركزة على الضرائب غير المباشرة على حساب الضرائب المباشرة التصاعدية، في ما سمي بتحويل لبنان إلى جنة ضريبية، أي خال من الضرائب المهمة على الرساميل.
ترافقت هذه السياسات مع تراجع الممارسة الديمقراطية في البلد، واتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وتقلص التقديمات الاجتماعية... في ظل شبه غياب للحركة النقابية التي جرى استتباعها لقوى السلطة.
التحرّك الشعبي ضد الضرائب الجائرة، يجري اليوم، في ظل هذه المعطيات الاجتماعية والسياسية والنقابية. وقد سبق وأشرت إلى ترابط العناصر الثلاثة. أي إن معركة الضرائب تجرى بمعزل عن حليفيها التاريخيين، الديمقراطية والحركة النقابية! لكن، رغم ذلك، لا ضرورة على الإطلاق، لا بل من الخطأ، رفع شعارات سياسية إلى جانب المطلب الضريبي، فهو يختزن بحد ذاته مدلولاً ديمقراطياً، بعيداً من التجاذبات السياسوية التي تقسم المتضررين، بحسب التجارب المتعددة السابقة.
على الحراك ضد الضرائب الجائرة، ألّا يشيطن الضرائب بحدّ ذاتها، فهي ضرورية للتقدّم الاجتماعي والسياسي. والشيطنة للضرائب مبررة في الوعي الجمعي اللبناني: من الضرائب العثمانية إلى خوات المليشيات والاحتلالات، إلى سرقة محاصيل الضرائب وهدرها من دون تأمين الخدمات العامة، إلى تقليص قدرة الناس على المراقبة والمحاسبة. كلها عوامل تبعدهم عن فهم الدور التقدمي للضرائب.
باعتقادي، وبعكس ما هو ظاهر، لا يلجأ المتزعمون إلا مكرهين للضرائب لتمويل الموازنة، ليس فقط محاباة لحلفائهم الطبقيين في القطاعات المصرفية والريعية خاصة، بل هم يفضلون الإبقاء على العجز في الموازنة لاستبعاد المحاسبة من قبل الناس من جهة، وتمنين الناس بخدماتهم المجانية من جهة ثانية. هذه الخدمات التي يمولونها من سرقاتهم للمال العام أو من المال المتدفق عليهم من الخارج!
على المطلب الشعبي أن يكون إذن ذا شقين: ضد الضرائب الجائرة ومن أجل سياسة ضريبية عادلة. والشق الأخير هو ما يجب إبداعه والضغط من أجل تحقيقه!
بعد مداخلته، قدّم الدكتور صليبي زميليه المشاركين في الندوة كخبراء في الإقتصاد، ولديهم الرؤية الأوضح والأوسع للتحدث عن الموازنة والسياسات المالية والإقتصادية.
الدكتور حسن مقلد كان له رؤية واضحة وبسيطة حول موضوع الموازنة العامة للدولة، لكن بالرغم من بساطتها وسهولة فهمها تميزت بعمقها وموضوعيتها واقترانها بأدلة وبراهين وأرقام صادمة حول الإنفاق والجباية ومكامن الهدر والفساد فيها، وفنّد في معرض حديثه لمقولات خاطئة يجري تداولها في الإعلام وعلى ألسنة المسؤولين والهيئات الإقتصادية، ورأى أن استسهال البعض في إطلاق تعابير وتوصيفات عامة لمسائل أساسية، هدفه التعمية على الحقائق، فمقولة "لا إنفاق دون إيرادات" هي مقولة تعاكس تماماً مفهوم الدولة ووظيفتها، وأن "كلفة الأجور مرتفعة" هي أيضاً مقولة خاطئة تبينها الأرقام الحقيقية التي تشير إلى أن كلفة الأجور في لبنان لا تتعدى 25% من الناتج المحلي، بينما هي في فرنسا وبريطانيا وأميركا وغيرها تتراوح بين 50 إلى 60% من الدخل العام، وأن نسبة الضرائب هي في الحقيقة قليلة، لكن المشكلة فيها أنها موزعة بشكل خاطىء على المكلفين بها، بحيث تطال الفقراء وأصحاب الدخل المحدود وتصيب القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية في الصميم، إلى الحد الذي وصلت فيه أرقام الإستيراد إلى أكثر من 19 مليار دولار سنوياً، بينها إستيراد الورود (50 مليون دولار سنوياً) والكاتو ومشتقاته (42 مليون دولار سنوياً) والزيوت المنزلية (أكثر من 250 مليون دولار سنوياً) ... وغيرها الكثير. بينما قيمة الصادرات لا تتجاوز الثلاثة مليار دولار...
وتحدث عن الهدر والفساد، وبأرقام لها دلالاتها البالغة، فمثلاً مساهمة الدولة السنوية في إعطاء منح سنوية لبعض الجمعيات (جمعيّة لتحسين نسل الخيل العربي مثلاً) وتغطية بعض المهرجانات السياحية وبمبالغ تفوق 2600 مليار ليرة سنوياً (في وقت تبلغ تكاليف تغطية سلسلة الرتب والرواتب 1200 مليار) والفساد في جباية الضرائب حيث يبلغ الهدر بمئات الملايين، ففي الجمارك يجب أن تصل الجباية إلى مبالغ لا تقل عن 3100 مليار ليرة سنوياً، نسبة إلى البضائع المستوردة، بينما المبالغ المحققة لا تتجاوز 700 مليار ليرة، وكذلك الأمر بالنسبة للضرائب المجباة من أرباح المصارف، وبمبالغ تتجاوز مئات المليارات...
وأشار الدكتور مقلد في نهاية مداخلته إلى أن الدولة بلا موازنة عامة منذ العام 2005 وهو أمر غير مسبوق في أي دولة من دول العالم، وبأن الدولة لديها سياسة نقدية ولكنها لا تملك سياسة إقتصادية. وعبر عن أمله بأن تلعب الحركة النقابية والإتحاد العمالي العام دورهما الحقيقي في ذلك، خاصة بعد إنتخاب قيادة جديدة للإتحاد.
الدكتور جاد شعبان شدد بدوره على ثلاثة محاور: من يقرر السياسة المالية ويضع الموازنة العامة للدولة، العدالة الضريبية، دور النقابات في وضع السياسة العامة للحكومات المتعاقبة.
وهو في هذا الإطار تحدث عن كيفية وضع الموازنة العامة والأسس التي تبنى عليها، وتأثير هذه الموازنة على المواطن اللبناني وعلى العاملين في القطاعين العام والخاص والقوى الأمنية والعسكرية، وهو رأى أن الذين يتحكمون بسياسة الدولة المالية والإقتصادية هم فئة قليلة من المواطنين ولا يتجاوز عددهم السبعة آلاف عائلة من أصل أكثر من 800 ألف عائلة في لبنان، وأن مشروع قانون الموازنة الذي أحيل إلى المجلس النيابي لإقراره بقانون يتضمن كل الضرائب التي تظاهر ضدها المواطنون، وهي موازنة تتشابه في مضمونها مع آخر موازنة أقرت في لبنان.
وأشار إلى أن النظام اليوم هو أسوأ من نظام الترويكا الذي كان سائداً أيام الوجود السوري في لبنان، حيث كانت السلطة بيد ثلاثة أطراف سياسية وطائفية، بينما هي اليوم أصبحت موزعة بين الطوائف والمذاهب والفئات اللبنانية المختلفة.
ونفى الدكتور شعبان مقولة أن لبنان بلا موازنة منذ العام 2005، بل أكد على أن الموازنة كانت موجودة دائماً، ولكنها موازنة غير قانونية ولم تعرض على المجلس النيابي لإقرارها وفق الأصول الدستورية والقانونية، بل هي موازنات كانت توضع لخدمة أهداف الحكام في السلطة، وعلى حساب العمّال والطبقات الفقيرة. وحمّل الدكتور شعبان الهيئات الدولية الجزء الكبير من الأزمة التي نعيشها اليوم، فهي كانت تعطي لبنان القروض والمساعدات المشروطة، دون أن تدقق في حقيقة الأوضاع الإقتصادية والمالية للدولة، وهو ما شجّع الحكومات المتعاقبة على الإستدانة (الداخلية والخارجية) وبفوائد مالية عالية تتجاوز 7% على العملات الأجنبية بينما الفوائد العالمية على الديون المشابهة لا تتجاوز 3 إلى 4% في أحسن الأحوال، وهو ما كلف المواطنين اللبنانيين مليارات الدولارات سنوياً، مع بقاء أرقام الدين العام على حالها، بل بشكل متزايد من سنة إلى أخرى. وقد كتب أحد الصحافيين اللبنانيين مبرراً هذا التعتيم على الواقع الإقتصادي والمالي بأنه "غموض بناء" !!!
وشدّد الدكتور شعبان على ضرورة أن يكون للحركة النقابيّة دورها الأساسي في رسم السياسات العامة للدولة، وهو حق يجب أن تكرسه الحركة النقابية بنضالها الدائم والمستمر، فدور النقابي لا يقتصر على المطالبة فقط، بل من واجبه أن يتحرك ويناضل ويدفع الأثمان الغالية، إذا اقتضى الأمر، من أجل تحقيق مطالبه وأهدافه.
ختم الدكتور غسان صليبي اللقاء بشكر الحاضرين لهذه الندوة، وشكر المحاضرين على جهودهما ومعلوماتهما القيّمة، وتنمنى على اصحاب الدعوة، في إتحاد موظفي المصارف والمركز اللبناني للتدريب النقابي، أن يتم طباعة مدونة بوقائع الندوة وتوزيعها على جميع المعنيين بها.
وكان لرئيس الإتحاد العمالي العام النقابي بشارة الأسمر كلمة موجزة في نهاية اللقاء، عبّر فيها عن أهمية الندوة وعلى أن أبواب الإتحاد مفتوحة أمام الجميع من أجل فتح حوار واسع في الشؤون العمّالية والمطلبية، وأن الإتحاد بحاجة لتعاون الجميع معه، ولا سيما الخبراء والباحثين الإقتصاديين أمثال المحاضرين في الندوة والمشاركين فيها. وقدّم شكره للمنظمين على دعوته لهذا اللقاء النقابي المميّز.